لم ينزل عليَّ خبر وفاة الشيخ سعد البريك كالصاعقة كما يقولون، فأنا مؤمن بالقضاء والقدر، وأن لكلٍ منا يومًا سوف يُدركه، وأن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك، و«الله يعلم ما تحمل كل أنثى وما تغيض الأرحام وما تزداد وكل شيء عنده بمقدار» ولكنه خبر نزل علي فأحْزَنَنِي حقًا، ودعوت للرجل كثيرًا، وأسأل الله أن يجعل ما دعوت به مقبولًا وأن يصيره في صحائفي رفعة لدرجاتي يوم ألقاه. سعد البريك ليس ممن يفقدهم الناس، ذلك أن الناس جُبِلوا على النسيان، فكم من رجل أو امرأة مات له أب أو ماتت أم أو مات أحد من أقاربه أو أخلص أصدقائه، ثم لم يلبث إلا ونَسي مصابَه وبدأ في العمل في دنياه كأنه لم يُصَب، وكأن الدنيا ستتيح له من البقاء فيها ما لم تُتِح لغيره؛ هكذا خلق الله الخلق ليعمر الكون ويبقى الخلق على شدةِ في العمل، وربما على تجدد في الأمل. فليست العبرة في فقد الناس للرجل؛ بل العبرة في فقد المواقف له، فسعد البريك رجل المواقف التي لم يقفها غيرُه في وقته، فأنا وغيري نذكره منذ خمسة وأربعين عامًا، وكل مواقفه لم يقفها غيرُه ممن هم في سنه أو أكبر منه قليلًا، ولا يعرف الكثير من الشباب أن الحق كان معه، وأنهم كانوا في ضلال مبين، إلا بعدما يأتي حدث آخر يُنسيهم ذلك الحدث الأول. فمما أذكره حين كانت أزمة الخليج، وقف معظم الشيوخ الشباب المشهورون حينها موقفًا سيئًا من استعانة الدولة بالأمريكان، وكان وجود الشيخين ابن باز وابن عثيمين وأعضاء هيئة كبار العلماء في ذلك الوقت، وكذلك كبار السن ومن يعرفون قيمة الدولة، عاصما للكثيرين من الشبيبة عن الوقوع في شرك مخالفة الدولة التي لم يقع الشيخ سعد في مخالفتها، بل أصر على تأييدها وتأييد ما قامت به رغم أنه كان في أواسط العشرينات من العمر، وقد أعطاه الله سبحانه في ذلك الوقت سمعة وصيتًا، لكنه لم يقصد الحفاظ على الصيت بالعدول عن كلمة الحق، وإنما كان الحق أحق أن يتبع وكان هو على هذا الحق. وجاءت بعد ذلك مشكلة أصحاب مذكرة ما يعرف بالنصيحة، وهي عبارة عن نصائح علنية حملت أسماء أربعمائة ممن يسمون المشايخ الشباب في ذلك الوقت، ولم أكن أذكر وقتها أن الشيخ سعد البريك منهم، وقد كان إلى وقت قريب من وفاته رحمه الله يذكر لي كم جر خطؤهم على حقيقة الدعوة من مفاسد. ومما نتج عن موقفهم من مفاسد: الاستهانة بالخروج على ولي الأمر، وهو أمر بعيد عن منهج السلف، نتج عنه تسرب الدعاية الخارجية إلى التكفير، وظهور خارجين على الدولة يتحدثون من الخارج، وآخرين من الداخل، وبروز أعمال إرهابية على أيدي هؤلاء، وكل تلك المشاكل كان الشيخ سعد ينهى عنها بشدة، حتى استعملته الدولة في لجنة مناصحة الموقوفين، وهي لجنة كانت تقوم بنصح المتورطين في أعمال إرهابية، أو المتعاطفين معها، وأظن اللجنة ما زالت حتى الآن. وقد هُدِّد الشيخ سعد في حياته وحياة أطفاله في ذلك الزمن من قِبَل أنصار تنظيم القاعدة الذي كان الشيخ رأسًا في محاربته بلسانه، وأعتقد أن الأجهزة الأمنية تولت حراسته في ذلك الوقت، وهو في تقديري بين عامي 1414 و1416. كما كان، رحمه الله، واقفًا بقلمه ولسانه في مواجهة داعش وكل من انتسب إليها أو تأثر بها، رغم أن داعش فيما تظهره للناس تحارب أدعياء التشيع، فكان الشيخ يقول: إن حربهم هم وما يسمى بالقاعدة في الرافدين للشيعة إنما يراد بها إيقاد الفتنة، ولا فرق بينهم وبين جيش المهدي إذ ذاك. وظل، رحمه الله، صوتًا رفيعًا في الدعوة إلى الجماعة وطاعة ولي الأمر التي بها تتحد الأمة ويتآلف الناس؛ وكان شديد النكير على ثقافة الغرب وما ينادون به من ديمقراطية لا تتفق وواقعنا ولا أهدافنا ولا أولياتنا؛ كما كان شديد النكير على المبادئ الغربية التي ينقلها الليبراليون ولا يدرون مدى ما تضر بنا وبدولتنا لو طبقت. وجاء الربيع أو الخريف العربي الذي يعتبر فيما أرى مقياسًا حقيقيًا لمدى سلفية الشخص، فكان سعد البريك تلك الشخصية السلفية الحقيقية التي لم تؤمن ساعة بصحة الخروج، وكان يرى أن الثورة في جميع البلاد ستذهب بالناس إلى أسوأ مما كانوا فيه؛ ولكنه وقف مع الثورة السورية لأمور خاصة بحاكم سوريا، كما أن الدولة السعودية وقفت الموقف نفسه قبل أن يقفه الشيخ سعد. وتلك تغريداته تدلك على ما كان يقول، وإن لم يكن يصرح بخلاف فلان أو فلان، فإن ما يقوله مصرح بخلافهم. هذا ما كان من الشيخ سعد فيما يتعلق بالقيادة وكيف أن نظرته الصائبة فيها، وهي النظرة التي رجع الجميع لها، وكثيرٌ ممن رجع ينسون تاريخهم ولا يحبون تذكره، أما الشيخ فلم يكن يكره من تاريخه شيئا نعرفه. أمَّا فيما يتعلق بتاريخه الفكري فهو كذلك تاريخ سلفي يقف مع الدعوة الإصلاحية التي تبنتها الدولة السعودية بجميع تفاصيلها، من الاعتقاد بالله الواحد لا إله غيره بأسمائه وصفاته، ويقف مع فقه الدعوة وشيخ الإسلام ابن تيمية، وألف كتابًا فيما وقع بين الشيوخ الثلاثة ابن باز والألباني وابن عثيمين من الخلاف سماه كتاب الإيجاز، وذلك إبرازًا لقيمة الخلاف في الدعوة السلفية، وكان مقدرًا لعلمائها الكبار سامعًا مطيعًا لما يصل إليه من توجيهاتهم. كما كان قويًا جدًا في الرد على المبتدعة، ولم يكن لأحد منهم قِبل في منازلته. وكذلك مع العلمانيين والليبراليين والقوميين، فهو مثال للسلفي الحق الذي لا تأخذه في الله لومة لائم. كل ذلك وهو سالك سبيله في مسجده وبيته ومكتبه يتعجب المتعجب منه كيف يجمع هذا مع هذا إلا بتوفيق من الله. كتبت هذه الأسطر بعد سماعي لنبأ وفاته، رحمه الله، وجمعنا به في جنات الخلد بإذنه سبحانه، فهو عظيم رحيم حنان منان.