قبل اثني عشر عاماً ذهبت إلى أحد مستشفيات الصحة النفسية في المملكة لعمل جولة صحافية، وكان الوضع سيئاً ومتواضعاً للغاية لا من حيث المكان ولا من حيث الأداء.. وقد نشرت كل التفاصيل حينذاك. بينما المشهد الذي لا أنساه هو عندما كنت أهمّ بالمغادرة، ناداني صوتٌ قريب جداً (يا سيد يا سيد).. تلفّت يمنة ويسرة، فإذا بوجه حنطيّ مجعّد قليلا وعينين ضيقتين يميل لونهما إلى الاصفرار خلف فتحة صغيرة طرف المبنى المقابل للصيدلية، أشار عليِّ بالاقتراب، (لا أخفي توجسي واضطرابي في البداية)، اقتربت فطلب مني سيجارة.. كان بإمكاني الامتناع عن إعطائه والاعتذار بأنني لا أدخّن، إلا أنني أحسست بمدى حاجته لها بالذات حين أشار عليِّ بإشعالها وهي في فمي، إذْ رأيتُ وقتها أنّه يريد أنْ يملأ داخله بدخانها كي تتحسّس روحه وتتذوق ملمس وطعم العالم الخارجي: هل لا يزال قاسياً ومُرّاً؟! وقد راقبته وهو يسحب أنفاساً متتابعة بعمق وبشراهة كأنما يقول لداخله: ذُق واشبع ثم قل لي ماذا وجدت؟ تغيرّ الطعم هاه؟.. أمْ أنّه صار أكثر مرارة؟.. وما لون الحياة هناك؟.. هل لا تزال سوداء..؟! فلتقذف، إذاً، كل هذا الدخان! وكان الدخان يخرج كثيفاً وخائباً يشكّله بحركات من شفتيه ويبتسم كطفل فيما عيناه الضيقتان تومضان بحزنٍ كبير. وأنا أغادر المستشفى، كنتُ أوَسْوِس بأمنية صغيرة بأن يعطيني هو سيجارة ويشعلها لي كي أسرِّب لداخلي شيئاً من شكل عالمهم، وكي أعرف ماذا يقول حزنهم وأيّ ليلٍ هو أطول: ليلهم أم ليلنا؟ في منتصف الطريق إلى البيت تتجمّع حشود الأسئلة وتغزو العقل والقلب معاً، لماذا نتِّهمهم بالجنون؟ أيّنا المريض في هذه الحالة؟ وأستعيد تلك المقولة العظيمة «العالمُ مستشفىً كبير للأمراض العقلية، أسوأُ ما فيه أنّ روّاده، عكس رواد المصحات العقلية، يسيرون طُلقاء!».