كانت مشاهد إنسانية وحضارية مؤثرة تلك التي شهدناها في افتتاح الأولمبياد المهيب في لندن، تلك المدينة التي أعطت بسخاء وسمو شرف حمل الشعلة، وفي الدقيقة الأهم للحدث الأهم في تاريخها الحديث، لاثنين من الأقليات المهاجرة هما شابة من أصل كاريبي وشاب مسلم من أصل باكستاني، وكأن لندن تريد أن تقول «انظروا إلي، من يشبهني؟ لا أحد! أنا لندن مدينة التسامح والعدالة والمساواة، أنا المدينة الكوزموبوليتانية الأشهر في العالم!». يمكنني القول، وعلى طريقة العرّافات أنها «سنة الحظ» الحسن للعاصمة البريطانية. ويبدو أن السماء ستكشف عن ضحكة النجوم لهذه المدينة الغائمة. ثلاثة أحداث زادت من شعبية بريطانيا في العالم وفي أوقات متقاربة، بعد انطفاء طويل لشعبية هذا البلد وللملكية البريطانية أيضاً: الزواج الملكي للأمير ويليام من كيت ميدلتون العام الماضي، اليوبيل الماسي للملكة إليزابيث الثانية، وأولمبياد لندن 2012. وذلك بالنظر إلى تحديات كثيرة عاشتها بريطانيا، والعائلة المالكة على أي حال، أسهمت في تراجع شعبيتها على مدى عقود: وفاة الأميرة ديانا، وطلاق كل أبناء الملكة إليزابيث، وسلسلة فضائح ألمت بكثير من العائلة نشرتها الصحف البريطانية، ناهيك عن القضايا التي حدثت في بريطانيا نفسها، وليس بعيداً عنها فضيحة التنصت الإعلامية لشركة مردوخ وتورط سياسيين، وفضيحة مصرف «باركليز» أخيراً، كل ذلك مع التضخم والتقشف الاقتصادي الذي تعيشه البلاد، والأداء السيئ في بعض الشؤون العسكرية بشأن العراق مع حليفها أمريكا، وموقفها المتردد من القضايا السياسية في الشرق الأوسط. سألت الصديق البريطاني «روبرت ليسي»، وهو الصحافي ومؤلف كتابي «المملكة» و«المملكة من الداخل»، وهو مستشار قصر باكينجهام الإعلامي وألف كتاباً عن الملكة إليزابيث باسم «صاحبة الجلالة»، مع كل تلك الظروف أتتفق معي أن المناسبات الأخيرة جاءت وكأنها الترياق الذي أنقذ بريطانيا العظمى من أمراض الشيخوخة؟ يقول «بالفعل الزواج الملكي، وما تلاه من اليوبيل الماسي قدما عودة حقيقية ورائعة للعائلة المالكة، لكن لندن مثلت المشهد الأخير على خشبة مسرحها، المسرح نفسه الذي أنجب شكسبير وإرثاً مسرحياً زاخراً، لكن لم يكن ليتسنى لتلك المشاهد -المناسبات- أن تقدم هذا الكم من المصداقية من دون الشخصية القوية للملكة إليزابيث الثانية والشعبية الاستثنائية للأميرين الشابين ويليام وهاري، وانضمت إليهما بالطبع كيت ميدلتون». في الحفل الذي افتُتح في 27 من الشهر الجاري، كان كل من «التقديم التاريخي» و«حس الدعابة» عاملين أساسيين في سيناريو الحفل، لاسيما مشهد الهبوط التمثيلي للملكة إليزابيث وجيمس بوند. ويبدو أن المنظمون تعمدوا تقديم حس الدعابة للشعب الإنجليزي الذي عُرف عنه التجهم. قال لي «ليسي» معلقاً «على الرغم ممّا هو معروف عنا كبريطانيين أننا متجهمو الوجوه، لكن لندن مدينة ترحب بالجميع». قدمت لندن نفسها في مناسبات مهمة اختصرت عليها برامج ضخمة من التلميع الإعلامي، بشعبية أضافت كثيراً للمشهد الاجتماعي والسياسي والاقتصادي على حد سواء. لكن هذه المناسبة الأخيرة –الأولمبياد- تركت للدول الأخرى نصيباً من هذا الظهور أيضاً، وإن كان مرهوناً بالتحديات التي سيخلفها هذا التنافس المحموم. فميدالية واحدة في الأولمبياد تساوي مجهود سنوات من برامج التلميع الإعلامي لأي دولة من ال204 المشاركة. وبرغم ما يواجهه البريطانيون الآن من أزمة بسبب خفض الإنفاق الحكومي وفي مواجهة عجز كبير في الميزانية، لكن يبدو أن الاقتصاد البريطاني مؤهل لأن ينتعش. فهذا الحدث جاء على طبق من ذهب ليجتذب لبريطانيا آلافاً من رواد الأعمال العالميين، ونحو مليار جنيه إسترليني، تقديرياً. يتزامن هذا الوضع مع ما تقوم به الحكومة من محاولات للملمة آثار الفضيحة المالية التي كشفت تورط بنك «باركليز» وعدد من البنوك الإنجليزية المهمة الأخرى بفضيحة تلاعب متعاملين في سعر الفائدة البريطاني، الأزمة التي تكاد تهدد مكانة لندن كعاصمة للاقتصاد الأوروبي.سمعة بريطانيا مؤخراً كانت على المحك أيضاً في الشرق الأوسط حين قدمت مصالحها في تعاملها مع الأنظمة الديكتاتورية السابقة. وبالرغم من أن الربيع العربي الذي أظهر رغبة العرب في الديمقراطية والحرية نال من إعجاب البريطانيين، إلا أن هناك قلقاً من صعود الإسلاميين في السلطة، الذين قد يكونون غير متسامحين مع الغرب، وهي تسعى الآن مضطرة لتطوير علاقتها مع هذه الأحزاب. وبرغم اعتزاز البريطانيين الذي بدا في أكثر المناسبات بريقاً، إلا أن استطلاعاً (من قِبل آي تي في نيوز-كومريس) أظهر أن حوالي النصف يعتقدون أن بريطانيا قد تغيرت للأسوأ خلال ستين عاماً، هي عهد الملكة إليزابيث. و80% يعتقدون أن احتفالات اليوبيل الماسي ستكون «جيدة للأعمال ولسمعة بريطانيا كبلد له شخصيته الخاصة»، بينما عارض 14% وجود النظام الملكي في بريطانيا. لكن كثيرين في المقابل يعتقدون أن الملكة إليزابيث لاتزال تمثل رمزاً مهماً في الداخل والخارج وللاستقرار وتطوير الخدمات في الأوقات العصيبة. سألت «ليسي»، ماذا بعد؟ ما الذي تبقى من أحداث تاريخية تشد العالم نحو هذه المدينة؟ فقال «البقية تأتي!».