يأتون إلى مكة وهم مُتلهِّفين أن تعانق قلوبهم روحانيَّة المكان.. إيمانهم مُتجدِّد، وشغفهم في أداء المناسك كبير، أتوا بعد أن وجدوا في أنفسهم الاستطاعة الكاملة، قدموا يحدوهم الشوق في أداء "حجة العمر" مُتيقنين أنَّهم قد لا يُكرِّرونها مرَّةً أُخرى، فتجدهم يؤدونها بحرص شديد مُطبقين فيها كل ما عرفوه وما تعلموه عن دينهم. إنَّهم الحجاج الآتون من خارج المملكة، أتوا من آخر بقاع الأرض لقضاء أيام معدودات راجين التوبة والمغفرة والخروج من ذنوبهم كيوم ولدتهم أمهاتهم. مشاهد مُتعددة يمكن رصدها لحجاج من جنسيات متعددة ولغات مختلفة وأعمار متفاوتة، تملأ أعينهم الدموع بمجرد وصولهم أرض المملكة، غير آبهين بما تركوا خلفهم من أموال وأولاد وملذَّات، همهم الأكبر والأوحد تأدية مناسكهم على أكمل وجه، يأتون جماعات وآحاداً، لكل واحد منهم قصة مُميزة تحكي علاقته بروحانية المكان والزمان، يتوحد مع نفسه ليستشعر ما في الفريضة من معانٍ سامية، نرى الواحد منهم قد أقبل يُدافع هواه وشيطانه؛ ليُعيد بداخله ترتيب العديد من الأمور التي قد تُشغله عن أداء هذه الفريضة على أكمل وجه، يعيش تفاصيل أيامه المعدودة بكل تجرد ليقبل على ربَّه ومولاه راجياً عفوه ورضاه. سيدة كبيرة السن وصلت قبل أيام إلى مدينة الحجاج في جدة يحاول الحجاج القادمون من خارج "المملكة" عربهم وعجمهم التحرُّر والانفكاك عمَّا يجعلهم بعيدين عن أداء حجهم بكل خشوع وطمأنينة، تجد أعينهم دامعة وألسنتهم تلهج بالدعاء والتضرُّع إلى خالقهم وبارئهم أن يتقبَّل صالح عملهم وأن يغفر لهم ويرحمهم، تراهم بعد أن أتَّموا حجهم يمشون الهوينا ويودعون الأمكنة التي تنقلَّوا فيها أثناء أداء حجهم، نرى شخصا طاعن بالسن يتلمَّس بجوارحه الأماكن التي وطأتها قدماه، وكأنَّه يحاول هنا تسجيل كافَّة التفاصيل واللحظات، فهو لا يودّ أن يفوته شيء بلا رصد، يحاول العيش وسط اللحظة الإيمانيَّة، نرى الفرحة والغبطة على وجوه الشباب الذين استطاعوا الوصول إلى هذا المكان وهم لا يزالون بكامل قوتهم وصحتهم التي تسمح لهم بالتعرُّف عن قرب إلى هذه الأماكن المقدسة، وهنا نجد أطيافاً من المشاعر المختلطة لدى الجميع رجالاً ونساءً وأطفالاً. قصص كثيرة نسمع بها وتروي لنا عن حجاج عانوا كثيراً ليتمكنوا من الوصول إلى المشاعر المقدسة وأداء حجة الإسلام، فغالبيتهم قد تقف الظروف الاقتصادية حجر عثرة في طريق أدائه مناسك الحج، وهناك من يجمع المال على مدى سنوات طوال ليتمكن من أداء هذه الفريضة. نقطة تحول وقد يمثِّل أداء أحدهم هذه الفريضة نقطة تحول مهمة في حياته، فقصة الحاج الصومالي "أبو محمد" الذي بلغ من العمر (60) عاماً خير شاهدٍ على ذلك، إذ حالت ظروفه المالية الصعبة من أدائه لفريضة الحج، إلى أن جاء الوقت الذي سافر فيه ابنه إلى إحدى الدول ليعمل فيها بعيداً عن بلده الأم، إذ إنَّ "أبا أحمد" نجح في ادخار جزءً من المال الذي كان ابنه يرسله إليه ليصرفه على باقي أفراد الأسرة، وذلك كي يؤدي هذه الفريضة، وما أن وطأت قدما "أبو أحمد" أرض "المملكة" حتى انهمرت دموع الفرح على وجنتيه مُستبشراً فرحاً أن مكَّنه الله من أداء فريضة الحج أول مرَّةٍ في حياته. طمأنينة وراحة وروى الحاج "محمد العويني" قصَّةً بيَّن خلالها أنَّه رافق في إحدى السنوات حجاجاً من جنسيات مختلفة، مُضيفاً أنَّ غالبيتهم كانوا يؤدون الفريضة أول مرة، مُشيراً إلى أنَّ مالفت نظره أنَّهم كانوا يرغبون في أداء الفريضة منذ بداية إسلامهم، ومؤمنين أنَّ توفر شرط الاستطاعة هو الأساس هنا، مُوضحاً أنَّ من بين هؤلاء حاجٌ من جنوب آسيا أسلم قبل عامين من أدائه الحج، وقد كان هدفه بعد الإسلام أن يؤدِّي الفريضة لكي يستشعر وقوف المسلمين معاً في مكان واحد وزمان واحد، وليدعو الله أن يُثبِّت قلبه على دين الإسلام، لافتاً إلى أنَّ هذا الحاج ظلَّ حينها قرابة الساعة داخل الحرم المكي وهو يبكي بكاء من فقد غالياً لديه، ذاكراً أنَّه عندما سأله عن سبب بكائه أجابه أنَّ السبب يعود لاشتياقه لهذا المكان الطاهر الذي طالما شعر فيه بالطمأنينة والراحة. مشقة وأمل في حين أكَّد "يوسف الهاجري" - إمام مسجد - على أنَّ معظم حجاج الخارج يأتون لأداء فريضتهم بمشقة وآمالاً وأحلاماً عريضة عاشها بعضهم سنوات عديدة على أمل أن يأتي هذا اليوم، وقال: "يقف هؤلاء الحجاج موقف المُوحّد لربه يرجون مغفرته، طامعين في ثوابه، متجردين عن كل شاغل يمكن أن يشغلهم عن أداء حجهم على أتمّ وجه"، مُضيفاً أنَّ قوافل الحجاج تأتي في كل عام قاصدةً المشاعر المقدسة في مكة، بعد أن تركوا وراءهم أموالهم وأولادهم وأوطانهم وكل ما يملكون من حطام الدنيا الفانية؛ طمعاً في رضوان الله والدار الآخرة، مُشيراً إلى أنََّ هذه الجموع تلتقي على صعيد واحد، في توحُّد غريب رغم تعدّد لغاتهم وألوانهم وجنسياتهم، لافتاً إلى أنَّهم حينها يأملون نفي العودة إلى بلدانهم بعد أداء فريضة الحج وهم أكثر صفاءً ونقاءً عائدون كيوم ولدتهم أُمهاتهم. حالة رضا وأوضح "محمد قرط " - مطوّف - أنَّه قابل العديد من حجاج الخارج ممن شكَّل لديهم الوصول إلى المشاعر المقدسة حلماً صعب المنال، مُضيفاً أنَّه لايزال يتذكَّر قصة إحدى الأُسر المكونة من أب وأُم وابنهما ممن أتوا من إحدى دول شرق آسيا لأداء فريضة الحج في عامٍ مضى، مُشيراً إلى أنَّ المُترجم الذي كان معه أخبره أنَّهم باعوا مزرعتهم التي يقتاتون منها؛ ليتمكنوا من أداء هذه الفريضة، لافتاً إلى أنَّه أخبره أنَّهم رُغم ذلك يعيشون حالة من الرضا؛ لأنَّه تحقَّق حلمهم في زيارة المشاعر المقدسة. وأضاف أنَّ العديد من الحجاج على اختلاف مشاربهم يتساوون أمام خالقهم في هذا المكان، فتُقبل قلوبهم التي تسكن أجساداً تتباين انتماءاتها لتشكل جزءاً واحداً يجعلهم يُقبلون على الله - عزَّ وجلّ - متوحدين مطمئنين واثقين بربهم شاكريه على أن مكَّنهم ويسَّر لهم أداء هذه الفريضة. تنقلات مرهقة لكبار السن في المشاعر «أرشيف الرياض»