تتطور المنظومة التعليمية بازدهار الثقافة التخطيطية والتنظيمية التي تحدد منطلقاتها وتأثيراتها الراهنة والمستقبلية. وبنظرة متأنية سنجد تطابق هذه المقولة مع واقع كثير من الدول التي ابتكرت نُظماً تعليمية متدرجة لتلبية متطلباتها التنموية وشروط المنافسة الدولية والإقليمية. إن الرغبة الأكيدة من القطاع الخاص لبلورة القضايا الاقتصادية المحلية بغية تهيئة المناخ المعافى لتحقيق تنمية اقتصادية مستدامة هي التي جعلته يفكر بضرورة إطلاق منتدى اقتصادي يمتلك القدرة العلمية الكفيلة بتشخيص القضايا الاقتصادية وايجاد الحلول العملية لها. ويعكس بالتالي رغبة رجال الأعمال للإسهام في صناعة شراكة حقيقية مع القطاع العام بما يدفع بالقدرات الاقتصادية إلى الأمام. محور قضايا التعليم الذي طرحه منتدى الرياض الاقتصادي الأول أبان الكثير من المعوقات والاختلالات الهيكلية والتنظيمية التي أدت إلى ضعف الناتج على صعيد التعليم العام والفني وارتفاع مؤشر البطالة وتضاعف الهدر، وباتت العملية التعليمية في حاجة ملحة إلى إعداد حزمة من الإصلاحات وإلى إعادة هيكلة جدية انطلاقاً من تحديد المعوقات الحقيقية بصورة علمية وتوسيع دائرة الحوار بإشراك كافة القطاعات المعنية بإحداث تحولات ديناميكية في النظام التعليمي بما يجعله ملبياً لمتطلبات السوق وتحديات العولمة الاقتصادية ومقتضيات الانضمام المتوقع للمملكة لمنظمة التجارة الدولية نهاية هذا العام. إن بإمكان القطاع الأهلي بما يستند عليه من تجارب وما راكمه من خبرات عملية رعاية العديد من الأنشطة المختصة بمناقشة قضايا التعليم وتمويل البحوث المتخصصة المتعلقة بتطوير المناهج وتوصيف الحاجات التدريبية وتأهيل المعلمين وإدخال أكثر البرامج استجابة لرغبات الطلاب وتفعيل بيئة تربط التدريب المهني ببيئة تفاعلية تزاوج بين التعليم والتدريب بما يؤدي إلى منتج تعليمي قادر على الاضطلاع بدوره في تحقيق واقع اقتصادي يمتاز بالنمو والمواكبة. التقدم التكنولوجي الهائل الذي أحرزه كان للقطاع الخاص الدور المؤثر في تحقيقه من خلال إعادة التوازن لمنطلقات العملية التعليمية ورعاية البحوث العلمية الدقيقة والاستثمار في (العلوم الحاكمة) وتبدو المفارقة المربكة عند مقارنة واقع الإنفاق على البحوث مثلاً بين ألمانيا إذ يصل 3٪ من الناتج الإجمالي القومي والدول العربية التي تصل نسبة الإنفاق فيها 9٪ وهي نسبة تعبر عن بؤس الواقع البحثي وانعكاسه على النمو الاقتصادي إذا وضعنا في الاعتبار أن نسبة مساهمة التجديد التقني المستمر من الإنفاق في البحث العلمي تصل إلى 80٪ في نمو الناتج القومي في الدول المتقدمة. يجب أن يسهم القطاع الأهلي في الإعداد البنيوي والتنظيمي لمتطلبات الاقتصاد المعرفي وتحدياته ويمكن الإشارة في هذا الإطار إلى مؤتمر الشراكة بين الجامعات والقطاع الخاص في البحث والتطوير الذي عُقد في جامعة الملك سعود مدخلاً جيداً لبدء القطاع الخاص في إعادة قراءة أدواره وبلورة استراتيجياته وتفعيل مفاهيمه للاضطلاع بمهام التحديث الاقتصادي الوطني وجعله مواكباً ومستجيباً للتحولات الدولية المتسارعة. إن الفرص الواسعة ما زالت مواتية أمام القطاع الأهلي لهندسة التعليم التقني والمهني والتدريب وإعادة هيكلة الأنظمة التعليمية والنظم التدريبية والاستثمار في رأس المال البشري ومن خلال الدخول شريكاً في الاستفادة من المخرجات التعليمية باعتباره المخدّم الرئيس للقوى العاملة الوطنية، يجب ألا يقف القطاع الخاص خارج المضمار منتظراً ما يأتيه من منتج تعليمي ثم يدير له ظهره لأنه لا يتوافق مع طموحاته ولا يلبي تطلعاته العملية، بل عليه أن يأخذ بزمام المبادرة بتجهيز وإعداد نوعية الموارد البشرية التي يريد. والتجارب الوطنية المتحققة في ذلك عديدة كالتعليم والتدريب التعاوني والتدريب على رأس العمل مع الاستمرار على تعميق شراكة القطاع الخاص مع مؤسسات التعليم والقطاع الأهلي يمتلك إمكانات جيدة لقراءة وتقييم الكثير من نماذج التحديث الوطنية القريبة من واقع المملكة وثوابتها والاستفادة من تجربتها كالنموذج الماليزي مثلاً التي قامت بتطوير عدة خطط مهمة واستراتيجيات ناجحة لتنمية الموارد البشرية لمقابلة تحديات الاقتصاد الرقمي من خلال اتباع إصلاحات ديناميكية للتعليم المهني والفني وإبراز منظومة التدريب العصري. إن التحولات العميقة على صعيد الاقتصاد المعرفي والإبداعات التكنولوجية والاتجاه المتنامي للاندماجات والتكتلات الاقتصادية العملاقة وما يتم تحقيقه والاستفادة منه يومياً من ثورة الاتصالات والمعلوماتية تطرح المزيد من التحديات وصعوبات المواكبة أمام الدول التي ما زالت تعتمد الأنظمة التعليمية والتدريبية التقليدية التي لم تعد تلبي متطلبات الاقتصاد الرقمي الذي يكتسب مواقع التأثير والتغيير الهائلة يومياً. ٭ رئيس اللجنة المنظمة لمنتدى الرياض الاقتصادي