من المهم في مرحلة ما أن تعي أنك أصبحت خارج التشكيلة اللاعبة التي تشكل الثقل وتؤثر في مجريات الأحداث أو تجد الهتاف والاهتمام الجماهيري، وهنا أعني منتسبي الساحة الفنية وتحديداً ساحة الأغنية من الفنانين الذين قدموا عطاءات جيدة قبل أن تغزونا وتغزوهم زوابع التغريب الجارفة. من الذكاء الحقيقي أن تعلم أين هو موقعك في أي وقت وأن يكون لديك تقييم سليم وإحساس وحدس عاليان لمعرفة في أي الصفوف تقف عند كل تجربة وفي كل مرحلة، وهذا ينبع من قدرتك على استيعاب المتغيرات من حولك التي تعصف بكل شيء وأنك شيء في هذه الساحة وقابل للتحريك والإزاحة وسط هذا الزحام المتماوج وقد تصبح بالفعل خارج المشهد الغنائي أو تمثل نشازاً بشكلك ولونك الذي عفا عليه الزمن مقارنة بخطوات الشباب اللاهثة خلف صرعات الجديد التي لم يعد بك نفس أصلاً لمتابعتها فضلاً عن رغبة التواجد في معمعتها كيفما اتفق أو اللحاق بركبها والتماشي معها. أعجبني رأي في غاية الواقعية لفنان البحرين المبتعد أحمد الجميري حين سئل قبل سنوات طويلة عن سر ابتعاده فقال إنه لا يرضى أن يتم تقييمه وسط هذه الفوضى الغنائية.. هذا فنان صادق مع نفسه لا يعيش في وهم النجومية البراق، استطاع مبكراً أن يستوعب الوضع وامتلك من الشجاعة القدر الكافي للنأي بنفسه عن مكان لا يمكنه أن يتواجد فيه بالشكل الذي يرضيه ولا يسيء لتاريخه وما سجله من حضور جيد في ذهن جيل من المتلقين في منطقة الخليج على مدى أكثر من عقدين.. إنه يقر بالواقع ويتعامل معه بعقلانية، والأهم من ذلك يقينه ضمنياً أن المشكلة لا تكمن فيه هو بل في ما يعج به الوسط الفني من ظواهر غير صحية بات من الصعب في ظل سطوتها تقديم فن راق يأخذ حظوظه من الوصول بنفس القدر الذي تناله الأغنية الهابطة. في المقابل تجد فناناً حقق في فترة مضت نجومية واسعة على المستوى العربي لكنه لا يريد أن يصدق حقيقة أن العجلة تخطته، هي ربما تكون عجلة مربعة أو مكعبة أو شبه منحرفة لكنها قفزت حواجز وحطمت مفاهيم وغيرت قيماً وأُسساً كنا نعتقد بثباتها ورسوخها، هذا الفنان - وليد توفيق - يقول في حوار أخير تعليقاً على الخلاف الذي نشأ بينه وبين شركة روتانا في سياق رده على انخفاض مبيعات ألبوماته، يقول إن «الفنان لا يُقدر بمبيعاته ولكنه يُقدر بإبداعاته»، وقد يكون معه نسبة من الصواب (نظرياً) لكن منطق السوق هو ما يحرك الشركات وهو الذي يحدد موقعك وهو الذي رفع شعبان عبدالرحيم وأخفى محمد ثروت! وحين تنخفض مبيعات فنان فهو ورقة خاسرة تسقط من حسابات كل الشركات، ثم أن الإبداع لم يعد مطلباً في العملية الغنائية لكي يُقاس به الفنان، ووليد توفيق يقر بمرارة في ذات الحوار باختلال المعايير ويفضح كثيراً من التدليس الذي يُمارس على الشاشات لصناعة نجوم هذا الزمن، وكان عليه أن يعي الدرس الذي يُملَى علينا على مدار الساعة عبر عشرات القنوات التي لا هم لها إلا ما تحدَّث عنه من عري ولعب على أوتار الغرائز وانحدار بالذوق العام. في السعودية لدينا نماذج لنجوم باتوا خارج المشهد يطلون بين الحين والآخر على حين غرة بحثاً عن بقايا ضوء نجومية آفلة لم يعد لها أثر ملموس إلا في ذاكرة بعض المحبين القدامى الذين يشفقون على فنانيهم وهم يغيّرون جلودهم الفنية ويستبدلون ألوانهم بأخرى لا تناسبهم لا من حيث المضمون ولا من حيث الشكل، ومشكلة الفنان هي في هذه الحالة عندما تدفعه الرغبة في الاستمرار وتسجيل الحضور - بمعطيات مختلفة تماماً ليست بالضرورة ايجابية - فيعمد من حيث يدرك أو لا يدرك إلى نسف ما كان أنجزه من عطاءات جميلة وقيمة في مرحلة ما، وبهذا يكون فقد كثيراً من أرصدته لدى جمهوره الحقيقي القديم في الوقت الذي لم يسجل حضوراً لدى جمهور الأغنية الجديدة، وفي اعتقادي أن الفنان علي عبدالكريم يناله من هذا الموضوع جانب خاصة بعد الألبوم والفيديو كليب الأخير، وغير بعيد منه العديد من الأصوات الجيدة التي تحاول استعادة الأضواء وتريد ترك بصمة على سطح البحر..! الكثيرون ممن عاشوا النجومية يقعون في شَرَك خطير، لأنها - أي النجومية كحالة - لا تتيح لصاحبها فرصة النظر من خانة المتلقي لمعرفة موقعه في أي وقت شاء، لذلك فالقلة من يدركون أهمية أن يكون صادقاً مع نفسه وأن ذلك خيرٌ له من أن يتخبط حتى يسقط نهائياً فلا يجد من ينصفه حين يفقد بريق الأمس وقابلية الحاضر.