رجال أمن الحرمين قصص نجاح تروى للتاريخ    الحقيل: تطوير عمراني شامل في المشاعر لإثراء تجربة الزائر    لكي لا يمسخ الذكاء الاصطناعي وعي الإنسان    مؤشر سوق الأسهم السعودية يغلق منخفضًا عند مستوى (11243) نقطة    فيروس البيروقراطية    140 جلسة في مؤتمر ومعرض الحج لمناقشة تطوير خدمات ضيوف الرحمن    وزير الحج والعمرة: "نسك".. من الفكرة إلى الخطة لتيسير رحلة ضيوف الرحمن    نائب أمير المنطقة الشرقية يستقبل مدير فرع الهيئة العامة لتنظيم الإعلام بالمنطقة    برعاية ولي العهد.. وزارة العدل تنظم المؤتمر العدلي الدولي الثاني 23 نوفمبر في الرياض    مذكرة تفاهم ثلاثية لتأسيس محفظة تنموية ب300 مليون ريال لخدمة ضيوف الرحمن    مكتبة الملك عبدالعزيز العامة ذاكرة بصرية لتأريخ الحج وعمارة الحرمين    انطلاق مؤتمر ومعرض الحج 1447 تحت شعار من مكة إلى العالم    مدير ابتدائية مصعب بن عمير يكرم طلاب الخطة العلاجية    رئيس الشؤون الدينية التركي يشيد بعناية المملكة بضيوف بيت الله الحرام    زلزال بقوة 3ر5 درجة يضرب جنوب تايوان    جمعية رؤية تختتم برنامج الإلقاء والخطابة للأطفال ذوي الإعاقة 2025    الهوية السعودية بين الموروث والثقافة السعودية في جلسة حوارية ضمن مبادرة الشريك الأدبي    استقرار سعر الدولار    قوات الاحتلال تواصل اقتحامها للمدن والبلدات الفلسطينية    عبر 11 لعبة عالمية.. SEF أرينا تحتضن البطولة الكبرى للدوري السعودي للرياضات الإلكترونية    تحت رعاية ولي العهد.. تدشين النسخة الافتتاحية من منتدى «TOURISE»    ارتفاع تحويلات الأجانب    إنفاذاً لأمر خادم الحرمين الشريفين.. منح رئيس «الأركان» الباكستاني وسام الملك عبدالعزيز    لص يقطع أصبع مسنة لسرقة خاتمها    هيئة «الشورى» تحيل 16 موضوعاً لجلسات المجلس    إنفاذًا لأمر خادم الحرمين الشريفين.. رئيس هيئة الأركان العامة يُقلِّد رئيس هيئة الأركان المشتركة الباكستاني وسام الملك عبدالعزيز من الدرجة الممتازة    الرياض تعيد اختراع الإدارة المحلية: من البلديات التقليدية إلى المدينة الذكية    ويتكوف وكوشنر اليوم في إسرائيل.. تحرك أمريكي لبحث أزمة مقاتلي حماس في رفح    «إثراء» يستعرض المشهد الإبداعي في دبي    مغنية افتراضية توقع عقداً ب 3 ملايين دولار    الثقافة تصعد جبال طويق    شجار زوجين يؤخر إقلاع طائرة    إسلام آباد تبدي استعدادها لاستئناف الحوار مع كابل    بعد ختام ثامن جولات «يلو».. العلا يواصل الصدارة.. والوحدة يحقق انتصاره الأول    استعداداً لوديتي ساحل العاج والجزائر قبل خوض كأس العرب.. لاعبو الأخضر ينتظمون في معسكر جدة    العلاقة الطيبة بين الزوجين.. استقرار للأسرة والحياة    النوم بعد الساعة 11 مساء يرفع خطر النوبات    المقارنة الاجتماعية.. سارقة «الفرح»    «الغذاء والدواء»: إحباط دخول 239 طناً من الأغذية الفاسدة    مستشفى الملك فهد بالمدينة صديق للتوحد    «الشؤون الإسلامية» بالمدينة تحقق 37 ألف ساعة تطوعية    فهد بن سلطان: هيئة كبار العلماء لها جهود علمية ودعوية في بيان وسطية الإسلام    أمير نجران يلتقي مدير فرع «عقارات الدولة»    العُيون يتصدر دوري أندية الأحساء    الاتفاق بطلاً للمصارعة    في الشباك    القبض على مروجين في جازان    تناولوا الزنجبيل بحذر!    تعزيز تكامل نموذج الرعاية الصحية الحديث    على وجه الغروب وجوك الهادي تأمل يا وسيع العرف واذكر الأعوام    معجم الكائنات الخرافية    الأهلي يتوج بالسوبر المصري للمرة ال 16 في تاريخه    فيفا يُعلن إيقاف قيد نادي الشباب    15 شركة صحية صغيرة ومتوسطة تدخل السوق الموازي    انطلاق مناورات "الموج الأحمر 8" في الأسطول الغربي    الشرع في البيت الأبيض: أولوية سوريا رفع قانون قيصر    أمير تبوك يستقبل عضو هيئة كبار العلماء الشيخ يوسف بن سعيد    هنأت رئيس أذربيجان بذكرى يومي «النصر» و«العلم».. القيادة تعزي أمير الكويت في وفاة صباح جابر    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



قيادة المرأة .. من الوعي المتخلّف إلى ذهنية التحريم
نشر في الرياض يوم 16 - 06 - 2011

يستطيع المتأمل للخطاب الديني المتشدد لدينا ، وهو الخطاب المتنفذ في شرائح عريضة من مجتمعنا التقليدي ، أن يلاحظ أنه خطاب مأسور إلى تصوّر كلي متخلف ، تصوّر تنبع منه كل رؤى التخلف التي قادت ، ولا تزال تقود ، إلى تضخم رؤى التشدد باستمرار ؛ بحيث لا يصبح الموقف المتشدد حالة استثناء ؛ نتيجة هذا الظرف النفسي ، أو حتى نتيجة ذاك الظرف المعرفي ، وإنما هو موقف يتنامى إلى درجة أن يصبح هوية عامة لخطاب هؤلاء المتشددين .
إذن ، بما أن قيادة المرأة للسيارة تدخل في دائرة المجهول ، في دائرة الجديد الغريب ، في دائرة المخوف لغرابته وللجهل به ، فلابد أن يقصى هذا الحق الطبيعي للمرأة ، لابد أن يُبعد عن مجال الذات الحيوي (لأنه قد يسمح به ، أو يُتسامح معه هامشيا
يستطيع المتأمل من الداخل أن يلاحظ ذلك ، كما يستطيع أن يلاحظه أولئك الذين يطلعون اطلاعا عاما على الصورة العامة لخطابنا الديني التقليدي من بعيد ؛ إذ يرونه خطابا مختلفا ، وبوضوح ، عن السائد الإسلامي . ومن المؤسف والمحزن ، أن هوية الاختلاف فيه تكمن في كونه خطاب تشدد يصدر عن وعي منغلق ، وعي لم يتصالح مع المكونات الحضارية للعصر الحديث ، ولهذا يسعى إلى رفضها وإقصائها بواسطة مقولات التحريم .
ذهنية التحريم التي كنا ولا نزال نعاني منها ، والتي خنقت المجتمع بطوفان من المحرمات من جهة ، وعطلت العقل وحاصرت مظاهر التنوع الفكري من جهة أخرى ، هي ذهنية لم تكن لتوجد ؛ لو لم يكن الانغلاق الذي يعكس واقعة التخلف هو سيّد الموقف في زمن نفوذها المباشر والصريح . فالانغلاق من حيث هو موقف نابع عن حالة تخلف ؛ يقود بالضرورة إلى مزيد من التخلف المؤدي إلى مزيد من الانكفاء على الذات . وكلما احتدمت الجدلية في هذا المجال ؛ كان العقل يصنع رؤاه الكلية من بقايا هذا الحطام الفكري أو من نفاياته ، بقدر ما يصنعها من إفرازات التأزم النفسي الملازم ضرورةً لحالة الانحطاط .
الإنسان التقليدي المتخلف الذي تأسره واقعة انحطاطه ، لايمكن له أن يراجع ذاته ، ولا أن يعيد قراءة موروثه الذي أصبح جزءا من ذاته ، ولا أن يفتح عقله وروحه على العالم بكل مكوناته الحضارية التي تعزز من إحساسه المُمض بالتفاهة نتيجة العجز ؛ خاصة في عالم الانجاز الذي يلامس تخوم الإعجاز .
التقليدي يدرك بحدسه أن مراجعة الذات ، وإعادة قراءة الموروث ، وفتح منافذ العقل والروح على العالم ، لابد أن تقف به عاريا متجردا من كل الأوهام الفكرية والأساطير التاريخية التي كانت تقوم بمهمة التعويض النفسي ؛ إذ هي ترمم بالوهم والخيال كثيرا من التشوهات التي تمزق العقل والنفس بحقائق الواقع المعاش .
التخلف يقود إلى الإحساس العميق بالصَّغار والانكسار والاندحار ، حتى وإن لم يعترف به المتخلف عنادا ومكابرة أو جهل.
لاشك أن التخلف المتوج بهذا الإحساس السلبي يقود إلى تصاعد وتيرة الخوف من الآخر (حيث الآخر غريب ، متآمر بالضرورة ؛ لمجرد كونه مختلفا) ، بل وإلى الخوف من كل مجهول (حيث الانغلاق يُوسّع من مساحات المجهول ، ومن ثم ، يزيد من حجم الخوف) ، بل حتى إلى الخوف من الذات (مادام الآخر مجهولا ، فالذات بالضرورة مجهولة ؛ لأن الذات تعي نفسها من خلال الوعي بآخر مختلف ، وهنا يتضاعف الخوف ، وتزداد درجة سلبيته ؛ لكونه آتياً من جهتين متقابلتين) ، إذ هي - في هذه الحال - ذاتٌ هشة ، ذاتٌ تمتلك قابلية التحول نحو الأسوأ ، التحول إلى درجة الوقوع في دائرة الهلاك (والهلاك له صوره ، إذ قد يبدو في صورة تحول فكري بسيط !) .
لهذا ، تجد أن أفكار ومواقف إخواننا المتطرفين ، منذ القديم وإلى اليوم ، مطبوعة بطابع خاص ، طابع تشم منه رائحة بؤس التخلف، وتلفحك منه سموم جحيم الانغلاق . إنها مواقف وأفكار يُشكّل التشدد قاسمها المشترك ، وتنضح تفاصيلها وطرائق الاستدلال فيها بالخلفية الانغلاقية الكامنة وراءها ، وتُوحي حركة انبعاثها فكريا ، ورحلة تموضعها في الواقع العملي ، بتلك الأزمة (الفكر- نفسية) التي خلقتها ، والتي صنعت ذهنية عامة (= ذهنية التحريم) قادرة على استقطاب كثير من الجماهير البائسة ، تلك الجماهير التي وصل بها هذا الخطاب إلى أن يجعلها تتبنى منهجا معكوسا ؛ حيث تتديّن بمزيد من التخلف والانغلاق ، أي إلى درجة أصبحت معها تحتسب انغلاقها وتخلفها قرباناً تتقرب به إلى الله ! ، وتعتقد أنها كلما انغلقت وتخلفت وانحطت ؛ أصبحت أقرب من الله ! ، وأجدر أن تحظى برضوانه من كل دعاة التقدم والانفتاح !.
هكذا يصبح التخلف والانغلاق والتشدد حالة فكرية (ذات بُعد جماهيري في الواقع) تبرر نفسها بنفسها ، ولا تحتاج إلى تبرير من خارجها . لهذا ، عندما يؤكد إخواننا المتطرفون على تحريم قيادة المرأة للسيارة ، فإنهم لا يأتون بجديد . التحريم ، والإيغال في التحريم ، هو الموقف المتوقع منهم ؛ لأن ذهنية التحريم لا تستطيع غير التحريم ، وفي أحسن أحوالها ، لا ترتاح لغير التحريم.
إذن ، لماذا نريد من خطاب متطرف يصدر عن ذهنية التحريم ، تلك الذهنية التي حرّمت من قبل كل جديد ، أن يتفهم مسألة مستجدة تُمثّل حالة انفتاح ؛ حتى ولو كانت نسبية ؟!
التحريم في هذه المسألة ليس خارج سياقهم ؛ حتى وإن كان خارج سياقنا ، بل وخارج واقعنا . وكما قلت في المقال السابق ، فموقفهم في هذا المسألة هو جزء من أيديولوجيا منظومة متشددة ، تصنع ذهنية التحريم ؛ بقدر ما تصنعها أي أن الخلاف بيننا وبين إخواننا المتطرفين ينبع من كون الموقف من هذه المسألة يُشكل تعبيراً عن نمط من أنماط التفكير المتخلف ، النابع من وعي متخلف ، والذي يقود ، ولابد أن يقود (للمبررات السابقة) إلى ذهنية التحريم التي تطبع خطابنا الديني التقليدي .
عندما تقرأ آراء ومواقف (= تلك التي يسمونها : فتاوى) إخواننا المتطرفين من موضوع قيادة المرأة ، تجد أنها مبنية على مُبررّات وعلل لا علاقة لها مباشرة بالشرع المطهر في صورته النصوصية الأولى ، بل هي مبررات وعلل مستقاة من الواقع المتخلف الذي صنعوه على هذه الحال الموغلة في التخلف ، أو هي مبررات وعلل ذاتية نابعة من التخلف والانغلاق والخوف والانشداد إلى الذهنية التحرييمة التي تأسست سلفا (في زمن سابق عليهم) ، وأصبح مجرد تقادمها شرعية لها ، شرعية تمنحها الاستمرار والنماء .
إن أفضل ما في هذه المسألة (= قيادة المرأة للسيارة) أنها مسألة تنعدم فيها النصوص تماما، ومن ثم ، فلا خلاف على النصوص هنا ، بل ولا خلاف حتى على التأويل ؛لأن المسألة لديهم ، مدنية خالصة حتى وإن لم يعترفوا بذلك ، إذ هي مبنية على قاعدة سد الذرائع ، بل وليست أية ذرائع ، إنها تلك الذرائع التي صنعوها / توهموها بأنفسهم ، ثم أرادوا سدها !. أي أن الآراء فيها تعكس حالة تفكير خاصة ، تفكير يصدر من خلال معاينة الواقع مباشرة ؛ دون أن يستعين بالنص إلا في نهاية المطاف ، وذلك بعد أن يكون منتوجُ رؤيةِ الواقع (= الرؤية المدنية) قابلًا لأن يُلبَس نصوصا مقدسة تقود إلى ذلك الفضاء المعشوق : فضاء التحريم .
لاحظْ ، من خلال المبررات والعلل ، كيف أن أحد عناصر الوعي المتخلف ، وهو الخوف (الخوف من المرأة ، والخوف على المرأة) يتحكّم في صياغة تلك المبررات والعلل .
إنهم يخافون من كل شيء ، يخافون أن يُعتدى على المرأة ، يخافون على صحتها (بصرف النظر عن صدقهم ، فما يهمنا هنا هو المنطوق المعلن للتبرير) ، يخافون على الرجال منها ، يخافون عليها من ضعفها المزعوم ، يخافون عليها من حريتها النسبية التي ستتحقق لها في هذا المجال ، يخافون عليها من متتاليات هذه الخطوة ، يخافون ...إلخ ، كما يخافون منها ، من حريتها ، من استقلالها ، من منافستها ...إلخ ، إنهم كما يزعمون ، يخافون على المجتمع ، وعلى الاقتصاد وعلى ... إلخ . فالخوف الذي يحكم ويحاصر الوعي المتخلف ، والذي هو نتيجة الجهل بالذات وبالموضوع وبالواقع ، يحضر دائما عند صياغة هذه العلل والمبررات التي تشرعن عقليا (فتوى) التحريم .
إذن ، بما أن قيادة المرأة للسيارة تدخل في دائرة المجهول ، في دائرة الجديد الغريب ، في دائرة المخوف لغرابته وللجهل به ، فلابد أن يقصى هذا الحق الطبيعي للمرأة ، لابد أن يُبعد عن مجال الذات الحيوي (لأنه قد يسمح به ، أو يُتسامح معه هامشيا) . الخوف يقود إلى الإقصاء ، إلى البعد عن المخوف المثقل بثمار الخوف . لكن ، لايمكن إقصاؤه إلا بسلطة نافذة ، والسلطة الوحيدة التي يمتلكها إخواننا المتطرفون ، أو يتوهمون أنهم يمتلكونها ، هي سلطة التحريم . ولهذا كان هوس التحريم ظاهرا في هذه المسألة ، فهم لم يحرموها لسبب واحد ، بل حشدوا لها أكبر قدر من المبررات والعلل ، من أجل محاصرة الرأي فيها بسلسلة من المحرمات التي لا تعكس درجة القناعة بحكم التحريم ؛ بقدرما تعكس درجة اللاقناعة بهذا الحكم المزعوم..


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.