في الحديث السابق عمَّا يتداوله الناس من قصور مؤسسات التربية والتعليم على اختلاف مستوياتها ومراحلها عن تحقيق غايات كانت ولا تزال هي المسوغ لوجودها تطرقُتُ إلى عدم تحقق أكثر الشروط التي تساعد على بلوغ المرام من المدرسة، والمعهد، والجامعة، ومن ذلك التباين في توجهات مؤسسات المجتمع ذات العلاقة بالتوجيه والتربية المؤثرة في ثقافة الناشئة، بل وفي أفراد المجتمع كافة. لذا لزم توحيد الجهود، وتطابق مضامين الخطاب التوجيهي وأساليبه. ٭٭ ٭٭ ٭٭ وعلى سبيل المثال، وفي أكثر من مرة يدور حديث حول التناقض المشهود بين المؤسسات الإعلامية والمؤسسات التربوية. حتى إن أحد المربين يردد مقولته التي اشتهرت: «نحن المربين نفتل في النهار، وفي الليل تنقض وسائل الإعلام ما فتلناه» ويعرف الجميع مدى التناقض بين بعض ما يُعلَّمُ في مدارسنا، ومعاهدنا، وجامعاتنا وبين بعض ما يتلقاه الناس من مؤسسات اجتماعية أخرى. ٭٭ ٭٭ ٭٭ وبالإمكان تلافي الحيرة والتخلص مما يشوش على ذهن المتعلم لو أنه انبرى للتعليم من وصفهم ذلك التربوي المحنك بأنهم: «أناس أُحسن اختيارهم، وعُمل على تعزيز دورهم، ومكانتهم، وتكوينهم، ومركزهم المادي، والأدبي، وتم اصطفاؤهم من القادرين على مزاولة هذه الرسالة العظيمة، وهم من الحكماء الذين يحبون ما يقومون به شرفاً وعملاً - لا ممن يأخذون العمل وظيفة وراتباً، ترعاهم مؤسستهم خير رعاية، وتداوم على تدريبهم وإثراء خبراتهم وتجديدها». لو أن من يقوم بالتعليم على صفات قريبة مما ذكر آنفاً لاستطاعت المؤسسة التربوية «تنمية حاسة التفكير والنقد الموضوعي» لدى المتعلم؛ وذلك بإيقاظها واستخدامها إزاء كل ما يراه، وكل ما يسمعه، وكل ما يقرأه. ويتحقق ذلك حين لا تتناقض توجهات المعلمين الفكرية، بحكم أنهم ليسوا مؤدلجين، يسربون أفكاراً متباينة ومربكة، لا علاقة لها بالمادة العلمية التي يعلمونها، أو التربية السليمة التي ينشدونها للناشئة. ٭٭ ٭٭ ٭٭ ولقد وقفت بنفسي في السنين الأخيرة على أمور لم أكن أعهدها حين كنت طالباً.. في المدرسة والجامعة.. رأيت بعض المعلمين يخلطون مفاهيمهم الدينية والاجتماعية الخاصة بالمادة العلمية ولو كانت في غير مناسبتها.. كما وجدت بعضهم يخلط ما هو من العادات السائدة بالعبادات؛ ظناً أن عدم التمسك بتلك العادات مخالفة شرعية محظورة، ومثال ذلك معلم الفيزياء الذي نقل طلابه عنه أنه يمضي الجزء الأول من الحصة في الوعظ الديني، وليته يعظ في أمور جوهرية من الدين - بل يجئ وعظه في أمور يشتد الخلاف بين الفقهاء حولها؛ فيشعل نار الفتنة بين عقول طلابه - ويخلق مجالاً للخلاف في أمور ليست في جوهر الدين، إن مثل هذه التصرفات تؤدي إلى تشويش ذهن المتعلم، وقد تحمله على سلوك فيه غلو وتعصب غير محمود. ٭٭ ٭٭ ٭٭ ولا سبيل للتخلص من مثل هذه السلوكيات إلا بشحذ العقول بما هو صواب من الفكر، ومستقيم من التربية. وإننا إذا مكنا الطالب من كيفية استخدام هذه الحاسة النقدية فسوف يتم بناء شخصية لن تتأثر بما قد يوحي به بعض هؤلاء الذين اندسوا من المؤدلجين ذوي الفكر الشاذ بين صفوف المؤهلين من المعلمين، وعلى منهج مخالف تماماً لما يجري عليه المنهج الحالي، الذي يقوم على الانضباط الظاهري المزيف، والطاعة العبودية، التي يمكن أن نتصورها «كوحش خرافي» يلتهم الشخصية الإنسانية، وهي لم تزل بعدُ غَضة طرية في بدايات حياة طلابنا، هذا الوحش الذي أتصوره مرتكزاً على قوائم أربع غليظة، تلتهم الشخصية الإنسانية، وتنبئ بظهور ما يسمى «أقنان المدارس» أو «التلاميذ الأقنان». وقوائم هذا الوحش الخرافي هي: 1 - الانصياع. 2 - التقليد. 3 - تعطيل الفكر. 4 - أفول الروح. ٭٭ ٭٭ ٭٭ لذا.. كان تحذيري دائماً من الوصول إلى تلك النتيجة، وبطبيعة الحال فإن وصفاً هذا مجمله سوف يعني «موت روح التساؤل» وضياع الاقتناع الحر، وظهور زيف مفتعل يبدو في السلوك، والتصرف، وهو يعني ميلاد أجنة ازدواج الشخصية، والنفاق، والمهرجين، تلك الشخصيات التي نشكو من تدفقها الآثم العارم إلى مجتمعاتنا العربية. إن ضياع روح الاختيار الحر هو الذي يخبئ خلفه تلك المفاسد التي قد توجد في المدرسة، والبيت، والإعلام. - ما الذي يصنع هذه الجفوة بين الطلاب ومدارسهم؟ - ماذا يكون من أمر مدارسنا؟ إذا خُيَّر معظم طلابنا في صبيحة أي يوم دراسي بين الذهاب إلى المدرسة، أو الانصراف عنها إلى أي نشاط آخر؟ ماذا سوف يختارون؟ وهل نجد من نُعلِّمهُم بعد ذلك؟ ٭٭ ٭٭ ٭٭ وتحضرني هنا طرفة متداولة هذه الأيام بين الناس (إذ جاءت الفقيرة إلى ذلك الغني البخيل وقالت له: يا أبا فلان: أريدك أن تقدم لي ما يفرح أولادي الصغار، فرد عليها قائلاً: هل أنت حقاً راغبة في إفراحهم؟ قالت: نعم. قال لها: قولي لهم لا تذهبوا إلى المدرسة غداً.. وسوف تكون هذه أعظم فرحة عندهم). ٭٭ ٭٭ ٭٭ إني دائم التساؤل عما هي حقيقة «روح العطاء والتقبل» فيما بين المعلم والطالب داخل الفصل الدراسي، إذا ما غاب المشرف، أو المدير، أو الزائر؟ وما نوع العلاقة بين المعلمين أنفسهم، أتشملهم روح الفريق؟ أم تظلهم الفردية المطلقة؟ وما الصلة القائمة اليوم بين المديرين والمعلمين، وبين هؤلاء جميعاً والطلاب؟ هل في ظل الإجابات السابقة يتضح أن «شخصيات» طلابنا تنمو؟ تتطور مداركهم؟ تتوهج أرواحهم بما يؤهلهم لممارسة حياة إنسانية تضمن تقدمهم، ثم تؤهل مجتمعنا لتحقيق آماله في كافة المجالات. الإجابة معروفة.. معروفة.. معروفة.. ٭٭ ٭٭ ٭٭ وليس من المبالغة أن أقول: إن كثيراً من البيوت يرى العديد من الأخطاء.. يراها في شخصيات الأبناء العاجزة الكليلة.. ويراها في كراسات الواجبات المحتاجة إلى تصويب.. وفي القصور عن مواجهات صعوبات الفهم المتبادلة في علوم كثيرة. بل فيما هو أخطر وأجل: ماذا عن الانتماء لديننا - انتماءً صادقاً صحيحاً - لا منحرفاً - والولاء لوطننا ولاءً مخلصاً، والذود عن كياننا ذوداً أبياً. إننا نرى كل ذلك، ولكن بعضاً - هداهم الله - يرى أن الأسلم ألا نُجْديَ التغيير نحو الأفضل، ويشتط غضباً لو أننا أزحنا من ليس أهلاً لأن يقوم بهذه الرسالة السامية، بل يعطل أي تقويم جاد لمثل هؤلاء المقصرين. ٭٭ ٭٭ ٭٭ وأؤكد مرة أخرى أن بعضاً من محاولات التطوير قوبلت من كثيرين بالرفض وسوء التقدير! ولقد حاولت - عن دراية وعلم - أن أغير ما استطعت مع زملاء صادقين متخصصين بعض هذا الواقع، ووفقنا الله لتحقيق الكثير، ولكن جابهنا أناس بآراء جامدة، لا تستند إلى حقيقة علم أو منطق، وكان تأثيرهم بالغاً في الوسط الاجتماعي مما أوقف عدداً من مشروعات التطوير.. فأصابنا من جرائهم ظلم، وجحود. ونحن في تلك الأحوال دائمو التمثل بقول الشاعر الجاهلي: وظلم ذوي القربى أشد مضاضة على النفس من وقع الحسام المهند لكن الأمر مبشر - بحمد الله - بالخير الكثير إذ تولى أمر التربية والتعليم أناس متطلعون لمتابعة إتمام النهضة التي بدئ بها منذ سنوات - وعسى ألا تقف معوقات - المعوقين - في طريقهم، أو يكون سوء ظن من بعض الناس عثرة في خُطا مسيرتهم. ٭٭ ٭٭ ٭٭ وفقنا الله جميعاً إلى الخير والصواب، والأخذ بأسباب القوة مهما غلا ثمنها، اللهم اجعل صدورنا سليمة معافاة، وأمدنا يا ربنا بتأييد من عندك وتسديد.