انبعاث الحياة من جديد في سوق عكاظ التاريخي بعد وأد أنشطته قبل ألف وثلاثمائة عام وعودة سريان الشعر في أوردته لينطلق فواحاً مرة أخرى من مدينة الورد الطائف، كان لا بد له لكي يتحقق ويلامس أرض الواقع من وجود قيادي مبادر بمواصفات سمو الأمير خالد الفيصل المبدع المحلق في سماء الشعر، والأديب المتمكن في ميدان الكلمة، وحامل لواء الفكر الذي يستقطب حول ساريتها رموزه، وصاحب النظرة الثاقبة التي تخترق نطاق الحاضر لتؤسس قواعد المستقبل وملامح ازدهاره. إن القيمة التاريخية والثقافية أو بالأحرى الحضارية لسوق عكاظ أبلغ من أن يتم التحدث عنها في مثل هذا المقام، فكتب التاريخ وعيون الشعر العربي التي انطلقت وذاعت من أرضه زاخرة بذلك، وتغني عن كل حديث أو قول حوله، لكن ما أجد أنه جدير بالطرح والتناول بالمناقشة لا سيما ومهرجان سوق عكاظ يقام هذه الأيام في دورته الثانية، هو الغياب الملاحظ لأبعاد هامة عن جو الحدث والمناسبة، الذي ربما كانت حداثة الجهود لإعادة الإحياء، وقصر المدة الزمنية للمهرجان منذ انطلاقة دورته الأولى العام الماضي هي مبرر وسبب مقنع ذلك، وتجبرني محدودية الحيز المتاح على أن أقصر حديثي هنا على غياب بعدين اثنين أساسيين فقط هما البعد العمراني والاقتصادي للمهرجان، ولعلي أعود للحديث عن الأبعاد الأخرى لاحقاً. إن غياب البعد العمراني في مهرجان سوق عكاظ في كل دورتيه الأولى والثانية يتمثل في حرص وعناية القائمين عليه، ويبدو أن جلهم من الشعراء والأدباء الأجلاء على إقامة أنشطة المهرجان وفعالياته سواء كانت أمسيات شعرية أو نقدية أو ندوات أدبية ضمن حيز فراغي مناسب من الناحية الوظيفية، لكن لم تكن الضرورة عندهم تحتم حضور البعد التاريخي والتراثي للمناسبة في ذلك الحيز، لذا رأينا تلك الفعاليات تقام ضمن منشآت عصرية لا ترتبط بمفردات المكان وعناصره المميزة، التي من بينها المنشآت التراثية للموقع التي تزدان بحجر (المرو) مادة البناء المحلية المعروفة، كما أن التشكيل الفراغي للمنشآت التي تبدو أنها ظرفية ومؤقتة لم تصغ على نحو له أسس ومنطلقات مهنية، سواء من الناحية التاريخية أو العمرانية أو حتى السياحية، وفي اعتقادي أن ظرف هذا المهرجان في دورتيه الأولى والثانية هو استثنائي ومؤقت ولا بد أن تكون هناك استراتيجية للجنة العليا للمهرجان لتطوير أرض هذا الموقع التراثي التي تمتد على مساحة أحد عشر مليون متر مربع بالعرفاء في الشمال الشرقي من محافظة الطائف لذا من المهم أن تتم خطة التطوير لهذه الاستراتيجية وفق أسس ومعايير تتواءم والتعامل مع الظروف التاريخية والمكانية لهذا الموقع التراثي، وفي رأيي أن هذا لا يتأتى إلا من خلال التعاون مع المؤسسات الدولية ذات الخبرة والباع الطويل في هذا المجال مثل (اليونسكو)، التي لا بد أن تمتد جسور التعاون معها في الشأن، على الأقل في إطار الحرص منا على تسجيل هذا الموقع في وقت لاحق ضمن مواقع التراث الثقافي العالمي، وتمويل جزء من تكاليف التطوير، التي ستتضمن بلا شك الحاجة لمجموعة من الخبراء والمتخصصين في هذا المجال. أما غياب البعد الاقتصادي فيتمثل في الواقع في العديد من الجوانب، لعلي تطرقت لأحدها فيما يتصل بنواحي التمويل لبعض أعمال التطوير من قبل المنظمات الدولية المتخصصة للموقع التراثي للسوق، يضاف إلى ذلك الجانب الاقتصادي العائد والمردود من فعاليات المهرجان سواء لتغطية جزء من تكاليف التطوير أو تحقيق دخل للمنشآت السياحية في المحافظة، والذي لا يمكن أن يتحقق إلا من خلال زيادة الفترة الزمنية التي يغطيها برنامج أنشطة وفعاليات هذا المهرجان والتي لا تتعدى حالياً ثمانية أيام فقط، بحيث تتضمن سلسلة من الأمسيات الشعرية والنقدية والندوات الأدبية والمسرحيات الشعرية والمعارض المتخصصة في فعاليات المهرجان وذلك طيلة موسم الصيف الممتد على مدى شهرين في كل عام، مع تحفيز القطاع المستثمر في هذه الفعاليات ليمارس دوره ضمن ما سيوفر له من منشآت تراثية ستقام في إطار خطة التطوير الاستراتيجية للموقع التاريخي للسوق التي أشرت لها سلفاً والتي أظن أن الكثير يتفق في الرأي بأن المنطقة المحيطة بالموقع التاريخي يجب أن تقام بها منشآت أساسية ومكملة لهذا العنصر التراثي الثقافي تشمل فندقاً لإقامة ضيوف وزوار المهرجان وداراً لإقامة المسرحيات الشعرية وقاعة لإقامة الأمسيات والندوات الأدبية، وربما مبنى لأكاديمية عليا للشعر العالمي وليس العربي فقط من أجل التواصل الثقافي الإنساني، وداراً لإصدار ونشر المطبوعات والأوعية الثقافية لفعاليات المهرجان، وقاعة عرض للمطبوعات الشعرية والأدبية، ومقراً لجمعية تعنى بالشعر والشعراء، إضافة لمقر نادي وميدان الفروسية بالطائف، ونحو ذلك من العناصر التي تثري أنشطة موقع المهرجان على مدار العام وليس جعله موسمياً فقط. * أكاديمي وباحث في اقتصاديات التنمية الحضرية 1429/8/21ه