لطالما كان الصمت ملاذا آمنا للبعض تحت عباءة المقولة الشهيرة: «في فمي ماء، وهل ينطق من في فيه ماء؟». لكننا اليوم، ونحن نقف على أعتاب مرحلة تاريخية من التحول والشفافية، نعلنها بوضوح: «ليس في فمي ماء»! ففي زمن الرؤية والوضوح، لم يعد الصمت فضيلة، بل صار عائقا أمام مسيرة البناء، وتسترا غير مقصود على مكامن الخلل. إن إعلان «خلو الفم من الماء» هو المبدأ الأول في مدرسة الشفافية ومواجهة الفساد. فالفساد لا ينمو إلا في بيئات الصمت المطبق والمداراة المتبادلة. عندما يقرر الموظف والمسؤول أن يقول «ليس في فمي ماء»، فإنه يكسر حلقة «المجاملات» التي لطالما كانت غطاء لتبديد الموارد أو استغلال النفوذ، فالشجاعة في كشف الانحرافات الإدارية والمالية هي الضمانة الوحيدة لحماية مقدرات المجتمع. وعلى صعيد الفكر، فإن شعار «ليس في فمي ماء» هو الحصن المنيع في مواجهة التطرف ونبذ الأفكار المنغلقة لأن الفكر المتطرف يقتات على ترهيب العقول وإسكات الألسنة الناقدة. وحين نخرج الماء من أفواهنا، فإننا نفتح المجال للحوار العقلاني، ونكشف زيف الادعاءات المتطرفة بلسان طلق لا يخشى في إظهار سماحة الاعتدال لومة لائم. إنها دعوة للوعي الذي يرفض أن يقاد بالصمت أو يسجن في أيديولوجيات لا تقبل المراجعة. أما على مستوى الأداء المؤسسي، فإن المكاشفة هي العلاج الوحيد لضعف الإنتاجية والترهل، فالمؤسسات التي لا تمنح منسوبيها حق القول «ليس في فمي ماء» هي مؤسسات محكومة بالجمود؛ حيث يطلب من المتظلم إثبات حقه بينما يغيب عن المقيّم ضرورة إثبات استحقاق التقييم. إن نقد ضعف الأداء ليس «تطاولا»، بل هو «استحقاق» تفرضه كرامة الكفاءة؛ فالمسؤول اليوم يحتاج إلى كفاءات تقدم إنجازات حقيقية «تبيّض الوجه» وإلا ستقول له معادلة النجاح الجديدة: «مع السلامة». لقد ولى زمان «المحاباة» التي تأتي على حساب الوطن، وحل مكانها زمان «الإنجاز» الذي يتطلب ألسنة ذربة وعقولا متيقظة فنحن بحاجة إلى أصوات تكشف الخلل لتقوّمه، وتشير إلى الفساد لتبتره، وتواجه التطرف لتمحوه. ليس في فمي ماء.. لأن الكلمات الصادقة هي التي تبني الأعمدة، والشفافية هي التي تنير الزوايا المظلمة، ومن كان في قلبه صدق تجاه دينه ووطنه ومجتمعه، فلا عذر له اليوم أن يزعم أن في فمه ماء. ومع بزوغ فجر هذا العام، فإن ميثاق العام الجديد وكل عام مديد يتطلب منا ألا نكتفي بوضع الخطط، بل بتطهير المسارات؛ فالعام الجديد لا يعني مجرد استبدال الأوراق، بل استبدال المنهجيات القديمة التي كانت تقتات على المداراة العابرة، فالنجاح الذي ننشده في هذا العام وما يليه لا يقوم على رمال المجاملات المتحركة، بل على أرضية المكاشفة الصلبة. * بصيرة: ليكن شعارنا الذي نعبر به نحو المستقبل: «ليس في فمي ماء»، لنبني وطنا ومؤسسات تقوم على أعمدة الحقيقة والنزاهة والعمل الجاد.