إذا ما اتفقنا أن كل واحد منا هو "مصمم" بالفطرة مثل كثير من القدرات والمواهب التي تولد مع الإنسان وترتبط بتكوينه العقلي، فإن التفسير الوحيد الذي جعل من الرواد روادًا في مجالاتهم هو وجود "تركيبة" خاصة لدى هؤلاء جعلهم يتميزون عن باقي البشر، ليس لكونهم تعلموا أفضل من غيرهم؛ بل لوجود استعداد "يصعب وصفه" أو "تحديد ماهيته" يكمن في عقولهم.. يقول المعماري الألماني "ميس فان دوره"، وهو من أبرز رواد عمارة الحداثة: "إن التصميم لا يستلهم بل يُقرر"، في نفس الوقت يثير الكثير أسئلة جوهرية حول إمكانية تعليم "التصميم"؛ فهل الأمر مرتبط بالموهبة أو بالتعليم؟ ما ذكره "ميس" يثير الالتباس حول هذه المسألة، فعندما يقول إن التصميم قرار فهو لم ينفِ أنه موهبة، وعندما يذكر أنه لا يُستلهم، فهو لا يُحيّد الإبداع والابتكار، لكنه في نفس اللحظة يُعلي من شأن الوظيفة التي طالما كانت هي مصدر توليد الأشكال لدى روّاد الحداثة. يظل السؤال حول علاقة التصميم بالتعليم مشوشة، رغم كل البرامج التعليمية حول تعليم العمارة والتصميم التي لم تصل بعد إلى معادلة واضحة، رغم مرور أكثر من قرن على بدايتها. يمكن أن أشير هنا إلى أن عملية التصميم "حالة فردية"، أي أن استجابة الأفراد لها وقدرتهم على اتقانها تُمثّل "أسلوبا في التفكير" يختلف من شخص إلى آخر. ورغم أن هناك من عرّف التصميم المعماري أنه "طريقة خاصة في التفكير" إلا أن كل مجالات التصميم متشابهة وتخضع لنفس الرغبة في خلق الأشكال الخاصة التي عادة ما تشير بشكل أو بآخر إلى كيف يُفكّر المصمم. سوف أتحدث هنا عن مناسبتين مهمتين ارتبطتا بالتصميم حدثتا خلال الأيام الفائتة، الأولى هي المناظرات الطلابية التي عادة ما ينظمها قسم العمارة في جامعة الإمام عبدالرحمن بن فيصل كل عام، وهي خلاصة مادة "قضايا معاصرة في العمارة". هذا العام أقيمت في مبنى "سايتك" في مدينة الخبر باستضافة من هيئة تطوير الشرقية يوم 20 من الشهر الجاري.. كانت هناك 11 قضية تم توزيع كل ثلاثة طلاب لدراسة قضية محددة على أن يتدربوا على الدفاع عنها في نهاية الفصل الدراسي أثناء جولات المناظرات، لكن كل طالب لعب دورا آخر وهو نقد قضية أخرى، وهذا يعني أنه يجب أن يتعلم وسائل الدفاع والهجوم النقدي، وهي مهارات يمكن تعلُمها والتدرّب عليها. لكن كان مطلوبا من كل مجموعة تحديد 10 رواد في كل قضية خمسة منهم في مجال التنظير والخمسة الآخرون في مجال الممارسة، والإجابة عن سؤال محدد هو: لماذا أصبح هؤلاء روادا في مجالهم؟ وما الأعمال والحلول والأفكار التي قدموها حتى يحظوا بهذا التميّز؟ هذه المسألة على وجه الخصوص أثارت قضية علاقة التصميم بالتعليم، فهل أصبح أولئك روادا لأنهم تعلموا تعليما خاصا، أم لكونهم يملكون الموهبة والجرأة والخيال؟ بعض الرواد لم يتعلموا تعليما نظاميا واكتسبوا معارفهم من التجارب الخاصة، إذن أين يمكن البحث عن دور التعليم في خلق مصممين مهرة. لقد أضاف الحوار مزيدا من الغموض على كلمة "تصميم" الذي تقابلها كلمة Design الإنجليزية، فهي ضمن المصطلحات "السائلة" التي يصعب تعريفها بوضوح، فما قاله "ميس" أن التصميم "قرار" لا يعني أن القرار نفسه واضح لدى الجميع. المناسبة الثانية هي منتدى أفضل الممارسات في تصميم المساجد الذي نظمته جائزة عبداللطيف الفوزان لعمارة المساجد وجمعية محاريب واستضافته كلية الهندسة في جامعة الملك فيصل بالأحساء. تظهر الكلمة السحرية "تصميم" في هذه المناسبة لتعطي بعدا آخر، فالتعلّم هنا من التجارب التصميمة السابقة يمثل مفصلا أساسيا قام عليه المنتدى، وأذكر هنا أحد أساتذتي قبل 40 عاما عندما قال "نحن لا نخترع العجلة من جديد، بل نتعلم كيف تعمل وكيف يمكن أن نطوّرها"، ويبدو لي أن ذلك الأستاذ الذي لم أستطع تذكّر اسمه وقد كان "إنجليزيا" كان يعي إشكالية "تعليم التصميم"، وكان على قناعة أن عملية التصميم تنقسم إلى جزء واضح يمكن تعلّمه كتطوير البرامج والتقنيات التي يحتاجها التصميم والإجراءات التسلسلية لتطور فكرة التصميم وغيرها من شكليات تم الاتفاق عليها منذ زمن بعيد. لكن هناك جزء غامض في هذه العملية مرتبط بالمصمم نفسه كونه ثقافة فردية يمكن أن يصنع هوية جماعية، وهو جزء يصعب تعلّمه، لذلك تبقى محاولة فهم أعمال المصممين الآخرين جزء أساس من بناء الخبرة التصميمية الفردية. في منتدى المساجد كانت هناك رغبة في التعلّم من تلك الحلول التي تعاملت مع المسجد حول العالم، لكن الإشكالية أن تلك الحلول لا تستورد كما هي وتحتاج إلى من يستطيع أن يصل إلى الكيفية التي اتخذ فيها المصممون قراراتهم. يبدو لي أن انتقال تعليم التصميم من ثقافة "ارتباط الطالب بالمعلم" التي كانت مبنية على علاقة فردية مباشرة، إلى الثقافة المدرسة التي جعلت المعلم مجرد مُنظّر منفصل عمليا عن طلابه جعلت من "توارث" موهبة تعلّم التصميم خالية من بعدها "الثقافي" العميق الذي يقدم المبررات للقرارات التصميمية. سوف أتحدث هنا عن خاصية في الإنسان وهي قدرته الفطرية على بناء الأشياء والعمل على ابتكار الحلول لحل المشكلات التي تعترضه، وهذا يعني أن جميعنا نملك موهبة التصميم بدرجات متفاوتة، وهذا لا يعني أننا نملك نفس الجرأة في اتخاذ القرارات ولا نفس الجلد في تكرار المحاولة من أجل الوصول للتصميم الأفضل ولا نفس الميول التي تجعل بعضنا لديهم المثابرة التي تدفع بهم إلى الغوص في تجربة التصميم في المجال الذي يميلون إليه دون كلل أو ملل. إذا ما اتفقنا أن كل واحد منا هو "مصمم" بالفطرة مثل كثير من القدرات والمواهب التي تولد مع الإنسان ومرتبطة أساسا بتكوينه العقلي، فإن التفسير الوحيد الذي جعل من الرواد روادا في مجالاتهم هو وجود "تركيبة" خاصة لدى هؤلاء جعلهم يتميزون عن باقي البشر، ليس لكونهم تعلموا أفضل من غيرهم؛ بل لوجود استعداد "يصعب وصفه" أو تحديد ماهيته يكمن في عقولهم جعلهم أكثر جلدا ووسع قابليتهم لتحمل عبء "التجربة والخطأ"، وهم جميعا يملكون "جرأة اتخاذ القرار" التي يفتقر لها كثير من عامة الناس.