أثناء صلاة الفجر ومع شدة البرد، عادت إلى الذاكرة صورة خلوة المسجد؛ ذلك المكان الذي ارتبط شتاءً بصلوات الفجر، وبحضور الدفء والسكينة في مساجد نجد قديمًا. فمع انخفاض درجات الحرارة، كانت الخلوة تمثل جزءًا أصيلًا من حياة المصلين، وعنصرًا مهمًا في عمارة المساجد التقليدية. تقع خلوة المسجد أسفل البناء الرئيس، ويُوصل إليها عبر درج بسيط، وقد صُممت لتؤدي وظيفة عملية تتمثل في حماية المصلين من البرد القارس. جدرانها من اللبن، وأسقفها من خشب الأثل، وإضاءتها خافتة، ما يهيئ أجواء مناسبة للخشوع والطمأنينة، ويعكس انسجام العمارة النجدية مع البيئة المحلية واحتياجات الناس، وللخلوة ذاكرة حسّية عميقة؛ إذ تستقبل الداخل إليها روائح تختلط فيها نفحات البخور برائحة الطين على الجدران، وتمتزج مع المسك والعود الذي اعتاد كبار السن من المصلين التطيب به. تلك الروائح شكّلت جزءًا من هوية المكان، ورسخت في الذاكرة الجمعية لأهالي الأحياء القديمة، وفي أرجاء الخلوة، تصطف المصاحف القديمة بألوانها وأغلفتها المميزة، فيما تتعالى أصوات التلاوة بتنوعها؛ من شيخ كبير يقرأ بصوت متقطع، إلى شاب يرتل بخشوع، إلى طفل غلبه البرد لكنه يشارك في الصلاة. مشاهد تختصر روح الجماعة، وتُظهر تلاحم الأجيال داخل المسجد. كما كان لخفوت الضوء أثره البالغ في تشكيل روحانية المكان؛ ضوء بسيط يلمع في العتمة، يمنح الخلوة سكونًا خاصًا، ويعزز حضور الخشوع. فلم تكن الخلوة مجرد مساحة للصلاة، بل تجربة روحية متكاملة، يتداخل فيها الدفء الحسي مع الصفاء الإيماني، وفي الرياض قديمًا، كما في بعض مناطق المملكة ، كانت الخلوة عنصرًا أساسيًا في تصميم المساجد، لا سيما في الأحياء القديمة. ومن الأمثلة التي ما زالت حاضرة في الذاكرة: خلوة مسجد القبلي في منفوحة، وخلوة مسجد الفريان والأوليف في معكال قبل إعادة بنائهما، إلى جانب مساجد أخرى شكّلت جزءًا من النسيج الاجتماعي للمدينة، ومع تطور العمارة الحديثة، وتوفر وسائل التدفئة وعوازل الجدران، تم الاستغناء عن الخلوة في كثير من المساجد. غير أنها بقيت حاضرة في الوجدان، تعيدنا إلى الطفولة، حينما كان الآباء يصطحبون أبناءهم إلى المساجد في ليالي الشتاء الباردة، فتتشكل في تلك اللحظات الأولى علاقة الإنسان بالمسجد. إن استحضار خلوة المسجد اليوم، في صحيفة تُعنى بالتراث، ليس مجرد حنين إلى الماضي، بل توثيق لمرحلة مهمة من تاريخ العمارة الدينية والاجتماعية في نجد، وتأكيد على أن المسجد كان فضاءً جامعًا للعبادة والتربية والذاكرة، ومكوّنًا أصيلًا من هوية المكان والإنسان. جانب من المسجد يظهر فيه الممر للخلوة دفء مبهج تبعثه الخلوة في الشتاء