قد تكون فكرة بناء الإنسان هي الاختبار الكبير الذي مرت به البشرية، فكل واحد منا يولد على الفطرة دون أي معرفة، والتجربة والمعايشة والرصد هي أدوات بناء المعرفة الأولى والمبكرة عند كل إنسان، لكن سرعان ما تحوّلت تلك البدايات إلى صناعة معقدة تتطلب الكثير من السياسات والاستثمار والبنى التحتية.. سأبدأ بحكاية، ربما أنها مرت على كثير من القرّاء الأعزاء وهي أن أحد العلماء أراد أن يُشغل ابنه ويلهيه كونه منشغلا في تلك اللحظة فأخذ قصاصة من جريدة يوجد بها خريطة للعالم فقام بتقطيعها وخلط القطع وطلب من طفله أن يعيد تركيبها، وكان يعتقد أن المهمة صعبة وستأخذ وقتا كافيا يجعله ينهي عمله، لكن بعد بضع دقائق ناداه ابنه وقال له لقد أنهيت المهمة، فنظر العالم إلى طفله باستغراب شديد وقال له كيف استطعت أن تركب هذه الخريطة المعقدة في دقائق معدودة، فقال له الطفل يوجد صورة إنسان في الخلف، فقد بنيت الانسان أولا، ومن يبني الإنسان يبني العالم. سواء كانت هذه الحكاية حقيقية أو مجازية فهي تهدف إلى تأكيد أن الإنسان هو من يبني العالم، ومن يبني إنسانا فإنه يستطيع بناء أي شيء. أذكر أنني قرأت عدة كتب تحمل عنوانا متقاربا وهو "الإنسان: الباني" Man: The Builder وهي كتب تتحدث عن كيف أن الإنسان بنى الحضارة ودون وجوده لا شيء موجود. كنت أُفكّر في هذه المسألة هذه الأيام، ونحن على أعتاب نهاية الفصل الدراسي الأول وجميع الطلاب يستعدون لدخول الاختبارات، وكنت أبحث عن بناء الإنسان داخل هذه العملية التعليمية المعقدة والمتشابكة وأسأل هل فعلا يمكن أن نقول إن هذه العملية تقود إلى بناء الإنسان. الطفل بفطرته ربط بين بناء الإنسان وبين بناء العالم، وهي فطرة عفوية لكنها صادقة وشفافة، وفي نفس الوقت تعكس بعدا فلسفيا يفترض أن يتنبه له المهتمون ب"التعليم النقدي". سوف أحاول هنا أن أبين العلاقة بين "التعليم النقدي" الذي يعني بشكل مباشر القدرة على التفكير وعدم تقبل الظواهر المشاهدة كما هي ومحاولة سبر أغوارها وتفكيكها من الداخل، وبين بناء الحضارة، أو بناء العالم، كما تصوره الحكاية. كل الحضارات قامت على نقد المدار الفكري السائد والعمل على إحداث تحول شامل أو جزئي فيه، وعندما يصبح هذا المدار ساكنا غالبا ما تدخل الحضارة في حالة خمول ويغيب عنها الابتكار والإبداع، أي أن المُحرّك الأساسي لنمو الحضارة هو "التعليم النقدي"، ولن أقول هنا "التفكير النقدي"، الذي هو بالتأكيد أحد الأسس التي يقوم عليها أي تعليم يهدف إلى بناء الإنسان. الفكرة هنا مرتبطة بالكيفية التي يمكن أن نصنع بها جيلا لديه القدرة على نقد الواقع وتفكيكه ويحاول باستمرار العمل على تغييره، لأن فلسفة التغيير التي يتطلبها بناء الحضارة ليست مقصورة على وقت محدد بل هو تغيير دائم ومستمر، مثل جريان الدم في الجسم، لو توقف فقد الجسد الحياة. وإذا ما اعتبرنا أن الحضارة كائن حي يتطلب تغذية مستمرة، فإن بناء الإنسان المُفكّر والناقد الذي يملك مواهب عقلية وتقنية هو الحل. قد يقول البعض إن البشر يتحدثون عن هذا "الإنسان الحُلم" الذي لم يتمثّل على أرض الواقع منذ فجر التاريخ، حتى إن أفلاطون في كتاب الجمهورية وضع نموذجا للانتخاب الطبيعي للبشر بحيث يبقى الأذكياء والأقوياء وتتخلص البشرية من الأغبياء والضعفاء، ورغم أنه نموذج ظالم، إلا أنه يشير إلى منطقة اللاوعي التي تجتمع حولها البشرية وهي الرغبة في الوصول إلى النخبة المثالية التي تستطيع بناء حضارة مثالية. أستطيع أن أؤكد هنا على أن فطرة "البناء" مغروسة بعمق في الوجدان الإنساني، فلم يكن هناك بشر في يوم دون بناء عقلي ومادي، حتى لو كانا بدائيين. سألت نفسي منذ فترة طويلة عمن اخترع التعليم، وماذا كان يريد من هذا الاختراع؟ وبالطبع لا يوجد إجابة دقيقة لمثل هذا السؤال، مثل كثير من الأسئلة التي تخوض في بدايات الحضارة الإنسانية، لكن البشر مثلهم مثل ذلك الطفل الذي قادته فطرته إلى أن بناء الانسان يمكن أن يبني العالم. الذين حاولوا أن ينظروا لمفهوم الحاجات الأساسية Basic Needs توصلوا إلى أن الإنسان يملك غرائز حيوانية عفوية تعمل على إبقائه على قيد الحياة، لكنه يملك غرائز تميزه وحده مرتبطة بقدرته العقلية الخارقة التي أودعها الله فيه. هذه الغرائز العقلية أو المرتبطة بالعقل تعمل على جعله يتجاوز الحاجات الأساسية إلى الحاجات الروحية والفكرية. يمكن أن نشير إلى هرم "ماسلو" للحاجات وارتقائها، لكنها جميعا لا تشفي غليلنا للإجابة عن سؤال: من اخترع التعليم ومتى؟ قد لا يستطيع أحد الوصول إلى إجابة مقنعة لكن الأكيد أن البشر لديهم قدرة مدهشة على التعلّم وعلى التنبه لقيمة تراكم المعرفة، وأن هذه المعرفة يجب أن يتم توارثها كونها في تضخم مستمر. لم يكن هناك طريق سوى التعليم، الذي كان في البداية مجرد توارث للمعرفة لكنه تحول بعد ذلك إلى إنتاج للمعرفة، وفي اعتقادنا أن نقطة التحول تلك هي الفاصل بين التعليم التقليدي والتعليم النقدي الذي كان سببا رئيسا في بناء الحضارة الإنسانية. قد تكون فكرة بناء الإنسان هي الاختبار الكبير الذي مرت به البشرية، فكل واحد منا يولد على الفطرة دون أي معرفة، والتجربة والمعايشة والرصد هي أدوات بناء المعرفة الأولى والمبكرة عند كل إنسان، لكن سرعان ما تحوّلت تلك البدايات إلى صناعة معقدة تتطلب الكثير من السياسات والاستثمار والبنى التحتية. الخشية هي أن تصبح أو أنها أصبحت عملية روتينية مترهلة وأنها تحولت إلى مجرد "تروس" في ماكينة ضخمة حركتها رتيبة وتحكمها قبضة "رياضية" حديدية، يصعب تجاوزها. السؤال الأهم هنا: هل تستطيع ميكانيكية التعليم المعاصر بناء إنسان قادر على مواجهة المستقبل الذكي؟ ولن نقول هنا قادر على بناء حضارة، إذ يبدو أن البشرية تجاوزت بناء الحضارات وتتجه إلى نموذج تطوّري مغاير لما عهدناه في السابق.