ضمن مبادرة الشريك الأدبي، وبالتعاون مع مقهى "دبس بلس" احتفت أمسية ثقافية بتجربة الشاعر والروائي إبراهيم الوافي، الذي قدّم قراءة مفتوحة في مسيرته الإبداعية الممتدة عبر عقود من الإخلاص للقصيدة، والانفتاح الواعي على أجناس أدبية متعددة، في حضور نخبة من الأدباء والمثقفين والمهتمين بالشأن الثقافي. واستعرض الوافي تجربته الشعرية التي بدأت مع القصيدة العمودية، قبل أن تقوده أسئلته الجمالية إلى قصيدة التفعيلة، حيث وجد فيها فضاءات أرحب للتخييل والابتكار، متأسيًا بتجربة الرائد بدر شاكر السياب الذي اجترح هذا الشكل الشعري وأدهش به الذائقة العربية. وأكد أن انتقاله بين الأشكال لم يكن قطيعة مع البدايات، بل تطورًا طبيعيًا في الرؤية والأدوات، أثمر عددًا من الدواوين الشعرية التي تمثل تحولات تجربته وتراكمها. كما تناول الوافي تجربته في الكتابة الصحفية، من خلال مقاله الأسبوعي في ملحق «الرياض» الثقافي، موضحًا أنه، رغم متطلبات الصحافة وإيقاعها السريع، حرص على تحقيق توازن دقيق بين وضوح الفكرة وعمقها، دون أن تطغى الصحافة على جوهره الإبداعي أو تنتزع منه حسّه الشعري. وأشار إلى أن الصحافة شكّلت تمرينًا مبكرًا على الانتباه، وصقلًا للغة، وتكثيفًا للرؤية. وتوقّف الوافي عند تجربته في الكتابة الروائية، مؤكدًا أنها امتداد طبيعي لشغفه باللغة، ومحاولة واعية ل«شعرنة» السرد من غير الإخلال بمتطلبات الحبكة وبناء المعمار الروائي. وقد برز هذا المسار منذ روايته الأولى "رقيم" ثم"الشيوعي الأخير" مروراً ب «السنبوك»، وصولًا إلى أحدث أعماله الروائية «من أحاديث عائشة - جدة 2009»، الصادرة حديثًا عن مؤسسة الانتشار العربي في بيروت في نحو مئتي صفحة. وتتناول الرواية واحدة من أكثر الكوارث حضورًا في الذاكرة السعودية المعاصرة، كارثة سيولجدة 2009، من زاوية إنسانية وفلسفية مغايرة، تمزج بين اليوميات الشخصية، والتأمل الوجودي، والقراءة النقدية للنص. وتنهض على بنية سردية مزدوجة، تتقاطع فيها الأصوات وتتداخل طبقات الحكي؛ إذ يأتي النص الرئيس على هيئة مذكرات تكتبها فتاة تركية تُدعى عائشة مراد، تخاطب البحر بوصفه شاهدًا أبديًا ومرآةً للبوح، مستعرضةً نجاتها وخساراتها وتحولاتها النفسية العميقة إثر الكارثة. ولا تكتفي الرواية بسرد وقائع المأساة، بل تمضي إلى تأمل معنى الفقد، وهشاشة المدن، وارتباك الإنسان حين ينهار الإيقاع المألوف للحياة فجأة، فيما يتحول البحر إلى رمز يتسع لأسئلة القدر والذاكرة والنجاة. ويتعزز هذا المسار بدخول شخصية أستاذ فلسفة يعثر على هذه المذكرات لاحقًا، فيكتب هوامش وتعليقات فلسفية ترافق النص، لتتشكل بنية حوارية بين صوت التجربة العارية، وصوت العقل التأملي، ما يمنح العمل بعدًا معرفيًا يخرجه من كونه شهادة على كارثة طبيعية إلى نص عن أثر الكارثة في الوعي الإنساني. وفي مداخلته، قدّم الزميل عبدالله الحسني قراءة وجدانية في تجربة الوافي، مؤكدًا أن الحديث عنه لا ينحصر في كونه شاعرًا أو صحفيًا، بل هو «حالة شعرية كاملة»، تتعامل مع الكلمة بوصفها مسؤولية أخلاقية وجمالية. وأشار إلى أن تقاريره الثقافية لم تكن تُقرأ فحسب، بل كانت تترك أثرًا إنسانيًا عميقًا، وأن مغادرته للقسم الثقافي لم تكن فقدان اسم، بل فقدان نبرة خاصة ولمسة أنيقة. غير أن الوافي – كما قال – لم يغادر المعنى، بل ترك «خيط إيداع» ممتدًا عبر زاويته الأسبوعية «انعكاس»، التي ظل من خلالها حاضرًا بهدوء ورهافة. كما عبّر الشاعر أحمد القيسي عن إعجابه وبهجته بتجربة الوافي الشعرية والسردية، مشيدًا بقدرته على الجمع بين عمق الفكرة ورهافة التعبير، وبحفاظه على صوته الخاص في الشعر والرواية على السواء، مؤكدًا أن منجزه يعكس وعيًا ثقافيًا وتجربة إنسانية صادقة. وأدار الأمسية باقتدار الإعلامي عبدالله وافية، الذي قاد الحوار بحس مهني عالٍ، وتمكّن بأسئلته الذكية وإدارته الهادئة من استخراج المخبوء في تجربة الوافي، وكشف مناطقها العميقة، واضعًا الضيف في مساحة مريحة للبوح واستدعاء محطات مفصلية من مسيرته الشعرية والصحفية والسردية، لتغدو الأمسية حوارًا معرفيًا حيًّا، لا مجرد استعادة زمنية للتجربة. وجاءت الأمسية شهادة حيّة على تجربة كاتب ظل وفيًا للقصيدة، منفتحًا على السرد والفكر، ومؤمنًا بأن الإبداع الحقيقي هو ذاك الذي يحفظ للغة قلبها، وللمعنى عمقه، وللإنسان دهشته الأولى. الشاعر أحمد القيسي وعدد من الحضور خلال الأمسية