يُعدّ تدهور الأراضي من أخطر التحديات البيئية التي يواجهها كوكبنا اليوم، ومع ذلك مازال لا يحظى بالاهتمام الكافي. فآثاره تمتد لتقويض الأمن الغذائي والمائي، وتعميق فقدان التنوع البيولوجي، وزيادة هشاشة المجتمعات في مواجهة تغير المناخ. ومع ذلك، تبقى الحلول متاحة وقابلة للتنفيذ، بل إن الجهود المبذولة لمواجهة تدهور الأراضي تحقق تقدماً ملحوظاً وتكتسب زخماً متسارعاً. في مؤتمر الأطراف الثلاثين (COP30) الذي استضافته مدينة بيليم في البرازيل مؤخراً، اجتمع قادة من الحكومات وقطاع الأعمال والعلماء والمنظمات غير الحكومية بهدف الانتقال من مرحلة طرح الحلول إلى مرحلة تنفيذها. وخلال جلسة رفيعة المستوى بعنوان "استعادة الأراضي من أجل المناخ – تطور جهود وحلول القطاع الخاص"، قدّمت رئاسة الدورة السادسة عشرة لمؤتمر الأطراف لاتفاقية الأممالمتحدة لمكافحة التصحر (UNCCD COP16)، التي تتولاها المملكة العربية السعودية، وبالتعاون مع أجندة العمل للمساحات الطبيعية المتجددة (AARL)، رؤى وحلولاً تعكس مسار التحول من الطموحات إلى خطوات عملية ملموسة، مع تركيز واضح على أهمية حشد الجهود وتعزيز التعاون الدولي واسع النطاق. وسلطت رئاسة (COP16) الضوء على أحدث الإنجازات البارزة ضمن خطة عمل الرياض، المنصة الاستراتيجية التي تقود جهود استعادة الأراضي على مستوى العالم، وتشكل إطارًا متكاملًا يجمع الدول والجهات الفاعلة غير الحكومية للعمل بشكل منسّق على استعادة الأراضي المتدهورة وتعزيز القدرة على مواجهة الجفاف وشحّ المياه. ومنذ إطلاقها في مؤتمر الأطراف السادس عشر في الرياض في ديسمبر 2024، شهدت المبادرات الداعمة لخطة عمل الرياض توسعاً ملحوظًا من 40 إلى أكثر من 100 مبادرة تغطي مختلف المناطق والقطاعات، جميعها تلتزم بعكس مسار تدهور الأراضي وبناء القدرة على الصمود. وقد نجحت هذه المبادرات في حشد نحو 19 مليار دولار أمريكي من استثمارات القطاع الخاص في المشاريع المرتبطة بالمساحات الطبيعية المتجددة، ما يؤكد بوضوح أن الاستثمار في استعادة الأراضي لم يعد مجرد تحدٍ، بل تحول إلى فرصة حقيقية وواعدة لتحقيق النمو المستدام. 3 أهداف برؤية واحدة وترتكز خطة عمل الرياض على ثلاثة أهداف شاملة تسعى إلى تعزيز الالتزامات العالمية تجاه المناخ والبيئة وهي: الحفاظ على 1.5 مليار هكتار من الأراضي المتدهورة واستعادتها، بما في ذلك 250 مليون هكتار من الأراضي الزراعية، وتعزيز القدرة على التكيف مع الجفاف والمياه، وحماية 30 % من الأراضي والمياه الداخلية، وتعبئة استثمارات مالية بقيمة 2.1 تريليون دولار أمريكي من القطاعين العام والخاص لتحقيق هذه الأهداف بحلول عام 2030. إن هذه الأهداف ليست مجرد طموحات نظرية، بل تعكس الأسس العلمية والاقتصادية لاستعادة الأراضي. ووفقًا لاتفاقية الأممالمتحدة لمكافحة التصحر، يمكن أن يحقق الاستثمار في استعادة الأراضي عوائد مالية تصل إلى أربعة أضعاف لكل دولار مُستثمر، وبمعدل عائد داخلي يبلغ 20 % خلال فترة تتراوح بين 5 و10 سنوات. كما يمكن أن يخلق ذلك قيمة اقتصادية تصل إلى 1.8 تريليون دولار أمريكي سنويًا من خلال تحسين الإنتاجية، وتقليل الخسائر، والاستفادة من خدمات النظم الإيكولوجية. في المقابل، تحذّر منظمة الأغذية والزراعة (الفاو) من أن التكلفة العالمية لعدم التحول نحو أنظمة زراعية أكثر استدامة وتجديدًا قد تصل إلى 10 تريليونات دولار أمريكي سنويًا، أي ما يعادل نحو 10 % من الناتج المحلي الإجمالي العالمي. في بيليم، جاءت إحدى أقوى الرسائل من مجتمع الأعمال. نحو مبادرة واحدة من كل خمس مبادرات ضمن خطة عمل الرياض مصدرها جهات فاعلة في القطاع الخاص، تشمل قطاعات الزراعة، والأغذية والألياف، والتمويل، والتأمين، والتقنية. ويشير ذلك إلى أن أكثر من 300 شركة بدأت بالفعل باتخاذ خطوات جادة وملموسة لاستعادة الأراضي، ما يشكل نقطة تحول فارقة، إذ لم يعد يُنظر إلى الأرض اليوم كمسؤولية بيئية فقط، بل أصبحت ركيزة أساسية لخلق القيمة على المدى الطويل، وإدارة المخاطر، وتعزيز القدرة التنافسية. وفي إطار تعزيز هذا الزخم وتنظيمه، تبرز مبادرة منتدى "الأعمال من أجل الأرض" (Business4Land) كمنصة تهدف إلى إشراك الشركات الملتزمة بنماذج أعمال مجددة وتراعي الطبيعة. وتوفر المبادرة مساحة لربط طموح الشركات بالأدوات العملية، والتوجيه، وفرص التعلم من الأقران، بما في ذلك التعاون مع منصات ومبادرات عالمية مثل مجلس الأعمال العالمي للتنمية المستدامة (WBCSD) وجهات أخرى تعمل على تحقيق أهداف الشركات، وتحويل سلاسل القيمة، وتقديم التمويل الإيجابي للطبيعة. وتسهم هذه الجهود جميعها في تمكين الشركات من تطوير مسارات عمل في 4 مجالات رئيسية هي: الزراعة المتجددة التي تعيد بناء صحة التربة وتعزز تخزين الكربون؛ ونماذج الأعمال التي تدمج الممارسات المراعية للطبيعة ضمن سلاسل الإمداد؛ والحلول التمويلية المبتكرة، بدءًا من الهياكل المدمجة إلى أدوات المرونة المستندة إلى التأمين؛ واستخدام البيانات والتقنيات الرقمية والرصد لتوجيه ومتابعة نتائج استعادة الأراضي. ومن المهم الإشارة في هذا السياق، إلى أن هذه النماذج ليست مجرد أفكار، بل هي قيد التنفيذ بالفعل؛ فمن ممارسات الزراعة الحرجية لتعزيز تخزين الكربون في أمريكا اللاتينية، إلى حلول التأمين لتعزيز القدرة على مواجهة الجفاف في أفريقيا، تثبت الشركات أن استعادة الأراضي يمكن أن تتماشى مع تحقيق الربحية، وإدارة المخاطر، وخلق قيمة طويلة الأمد. خطة عمل الرياض: ركيزة استراتيجية إن الزخم نحو استعادة الأراضي ليس وليد اللحظة؛ فهو يستند إلى مبادرات راسخة مثل تحدي بون، وعقد الأممالمتحدة لاستعادة النظم البيئية، والأهداف الوطنية لحيادية تدهور الأراضي، غير أن هذا الزخم يشهد اليوم تسارعًا غير مسبوق. وتبرز في هذا الإطار خطة عمل الرياض كمنصة شاملة تهدف إلى توحيد هذه الجهود وتوسيع نطاقها وربطها، بما يضمن تكاملها وتحقيق أثر يفوق ما يمكن أن تحققه كل مبادرة على حدة. كما يتماشى هذا الزخم مع التحول الأوسع نطاقًا نحو تعزيز التكامل والتعاون بين اتفاقيات ريو الثلاث المعنية بتغير المناخ، والتنوع البيولوجي، ومكافحة التصحر. ففي مؤتمر الأطراف الثلاثين (COP30)، لعبت رئاسة مؤتمر الأطراف السادس عشر (COP16)، بقيادة المملكة العربية السعودية، دورًا محوريًا في دفع النقاشات الرامية إلى مواءمة أجندات المناخ والطبيعة والأراضي، من خلال فعاليات ركزت على تعزيز أوجه التآزر بين هذه القضايا. وقد أكدت تلك الجهود حقيقة جوهرية: لا يمكن مواجهة تغير المناخ دون حماية الأراضي والنظم البيئية واستعادتها، ولا يمكن صون الطبيعة دون معالجة أسباب تدهور الأراضي. وضمن هذه الجهود، توفر خطة عمل الرياض آلية عملية تمكّن الجهات الفاعلة في الاقتصاد الحقيقي من العمل وفق رؤية متكاملة وشاملة. في العام المقبل، ومع انعقاد مؤتمر الأطراف السابع عشر لاتفاقية الأممالمتحدة لمكافحة التصحر (COP17) في أولان باتور، يستعد العالم لإجراء أول مراجعة عالمية للأراضي، في لحظة مفصلية لتقييم التقدم المحرز، ورصد الفجوات، وتصحيح المسار. وفي هذا السياق، تبرز خطة عمل الرياض كركيزة استراتيجية لدعم هذه الجهود، من خلال تسليط الضوء على كيف يمكن للتعاون بين الحكومات، وقطاع الأعمال، والمؤسسات المالية، والمجتمعات المحلية، والمنظمات غير الحكومية أن يحقق نتائج ملموسة على أرض الواقع. ولتحقيق هذه النتائج، لا بد أن تتكامل أدوار جميع الأطراف. على الحكومات أن ترسم سياسات واضحة، وتزيل الحوافز المضللة، وتوفر بيئات ممكنة وداعمة للممارسات التجديدية والمستدامة. أما المؤسسات المالية، فيجب أن تعيد توجيه محافظها الاستثمارية، وتبتكر أدوات لتقليل المخاطر، وتوجه رؤوس الأموال نحو مشاريع استعادة الأراضي على نطاق واسع. ويتعين على الشركات دمج قضايا الأراضي والمياه في صميم استراتيجياتها الأساسية، لا أن تقتصر استراتيجياتها على برامج المسؤولية الاجتماعية، مع وضع أهداف قابلة للقياس لسلاسل التوريد. وفي المقابل، يجب أن تكون المجتمعات المحلية والشعوب الأصلية، بصفتهم الحُماة الطبيعيين للأراضي، شركاء وقادة حقيقيين لا مجرد أطراف ثانوية. وفي الوقت نفسه، ينبغي على المنظمات غير الحكومية أن تواصل مساءلة جميع الأطراف لضمان العدالة والشفافية والشمول. الحقيقة واضحة: النهج التجديدي ليس فكرة ثانوية، بل يمثل نموذجًا اقتصاديًا جديدًا. فالمساحات الطبيعية السليمة والفعّالة تشكّل الأساس للأمن الغذائي، وتوافر المياه، واستقرار المناخ، واستعادة التنوع البيولوجي، وضمان سبل عيش كريمة. والتحدي اليوم يكمن في تحويل هذه الرؤية إلى حركة عالمية حقيقية. المستقبل ليس ثابتًا، بل يُعاد إحياؤه – هكتارًا بعد هكتار، مشروعًا بعد مشروع، وشراكةً بعد أخرى. وإذا نجحنا، فلن يُنظر إلى الأرض بعد الآن كعبء مستنزف، بل كمنظومة نابضة بالحياة تأتي في صميم حلول المناخ والتنمية. لقد حان الوقت للانتقال من المشاريع التجريبية المحدودة إلى المحافظ الاستثمارية، ومن الوعود إلى التنفيذ، ومن الأراضي المتدهورة إلى المساحات الطبيعية المتجددة. فلنستثمر في الأرض، ليس فقط لما كانت عليه، بل لما يمكن أن تصبح عليه. * وكيل وزارة البيئة والمياه والزراعة للبيئة، ومستشار رئيس مؤتمر الأطراف (COP16)