يعيش السودان منذ ثلاث سنوات حرب دموية نتج عنها عشرات آلاف من القتلى وملايين من النازحين وتشهد خصوصاً مدينة الفاشر السودانية واحدة من أبشع مظاهر جرائم الحرب في التاريخ الحديث، حيث يقتل المئات بدم بارد وتنتهك الاعراض ويتعرض الأطفال والنساء للخطف والمساومة والابتزاز، مع إغلاق المدينة أمام المنظمات الإنسانية والأممالمتحدة. وتعتبر خيوط الأزمة متشابكة في المشهد السوداني تعكس حجم الانهيار السياسي والعسكري والإنساني الذي تعيشه البلاد منذ اندلاع المواجهة بين القوات المسلحة وما يسمى قوات الدعم السريع، حيث باتت الهدنة التي أعلنها الدعم السريع من حين لآخر، مجرد عنوان عريض بلا مضمون فعلي يكشف التناقض بين الخطاب العلني والممارسة الميدانية إذ يعلن قادة الدعم السريع عن التزام بوقف إطلاق النار بينما تتواصل العمليات العسكرية على الأرض في مناطق عدة وتستمر الهجمات العشوائية على المدنيين وتستمر عمليات القصف على أحياء الخرطوم ودارفور وامتداد النزوح الذي يزداد اتساعاً مع كل يوم جديد. ازدواجية الخطاب وتلاشي الثقة الشعبية التناقض في خطاب الدعم السريع هذا التناقض الواضح في خطاب الدعم السريع يعزز قناعة المراقبين بأن الهدنة لم تكن سوى خطوة تكتيكية لكسب الوقت وإعادة الانتشار وإظهار رغبة شكلية في الانخراط بعملية سلام بينما تشير الوقائع الميدانية إلى العكس تماماً إذ تعكس البيانات التي تصدر من الميدان استمرار القتال وتصاعد وتيرة الانتهاكات وغياب أي بوادر لالتزام حقيقي بوقف العمليات مما دفع الحكومة السودانية إلى وصف هذه الهدنة بأنها مجرد إعلان إعلامي لا يعكس الواقع خصوصاً أن ابتعاد الدعم السريع عن أي التزام عملي عزز حالة انعدام الثقة التي تسود الساحة السياسية والعسكرية. معاناة «الفاشر»: مجازر قتل واحتجاز وتعذيب وابتزاز على يد قوات الدعم السريع من جانبها، تؤكد الحكومة السودانية أن أي هدنة حقيقية يجب أن تتجسد في وقف كامل للعمليات العسكرية وسحب الميليشيات من الأحياء السكنية وفتح الطرق أمام المساعدات الإنسانية وتمكين السكان من العودة إلى منازلهم وليس مجرد رسائل سياسية ترسلها قيادة الدعم السريع إلى الخارج بهدف تحسين صورتها أمام المجتمع الدولي ويأتي هذا الموقف استناداً إلى سلسلة طويلة من الانتهاكات التي ارتكبها الدعم السريع خلال الشهور الماضية مما جعله طرفاً فاقداً للثقة الشعبية ومتهما بارتكاب جرائم واسعة النطاق في عدد من الولايات. وفي هذا السياق جاءت بيانات متعددة من الأممالمتحدة لتؤكد تصاعد القلق الدولي من الانتهاكات المروعة التي يتعرض لها المدنيون في السودان حيث وصفت البيانات الوضع بأنه أكبر أزمة نزوح في العالم محذراً من كارثة إنسانية غير مسبوقة بسبب الانتهاكات الخطيرة التي يمارسها الدعم السريع بحق الأهالي سواء من خلال قتل المدنيين أو الاعتداء على القرى أو تدمير الممتلكات أو نهب المساعدات أو عرقلة الوصول الإنساني وأشار البيانات الدولية أيضاً إلى أن حجم العنف الذي تشهده "الفاشر" تحديداً يرقى إلى مستوى الجرائم الواسعة التي تتطلب تحقيقاً ومساءلة دولية. شهادات الناجين تفضح منظومة القمع وتحول المناطق المحاصرة فضاء مغلقاً بلا قانون ومع اتساع نطاق الانتهاكات باتت صورة الدعم السريع على المستوى الدولي تتعرض لهزة كبيرة تتجسد في ردود الفعل الدولية والإقليمية التي تتوالى انتقاداً وإدانة لسلوك "الدعم السريع" خصوصاً بعد توثيق جرائم أثارت صدمة واسعة شملت عمليات قتل جماعي واعتداءات جنسية وتجنيد أطفال وتهجير قرى بكاملها وتحويل المستشفيات والمراكز الصحية إلى مقرات عسكرية وهي ممارسات دفعت منظمات حقوقية دولية إلى وصف الدعم السريع بأنه قوة خارجة عن القانون لا تلتزم بأي معايير إنسانية أو قانونية بينما يرى محللون أن هذه الانتهاكات أسهمت في عزل الدعم السريع تدريجياً على الساحة الدولية وجعلته هدفاً لتدقيق أكبر من الدول الكبرى والمنظمات الإنسانية. تجاهل الحقائق الميدانية ويتضح من خلال متابعة التصريحات وتحليلات الخبراء أن استراتيجية الدعم السريع الإعلامية تقوم على محاولة خلق صورة مغايرة للواقع تسعى إلى إظهارها كطرف حريص على السلام بينما تتجاهل عن عمد الحقائق الميدانية وذلك عبر استخدام منصات التواصل الاجتماعي وبث رسائل موجهة إلى الخارج تتحدث عن الهدنة والالتزام بالقانون الإنساني في حين تشير الأدلة على الأرض إلى عكس ذلك تماماً إلا أن هذه الاستراتيجية لم تعد تحقق نتائجها السابقة بعد أن أصبحت الانتهاكات واسعة وممنهجة وصار الرأي العام الدولي على اطلاع شبه كامل بحجم الجرائم التي ترتكب وأن الخطاب الإعلامي لم يعد قادراً على تغطية تلك الوقائع. وفي ظل هذه الازدواجية بين الخطاب والفعل يبرز البعد الإنساني كأحد أكثر الجوانب قسوة في الأزمة السودانية حيث أدت خروقات الهدنة إلى موجات نزوح ضخمة في عدد من الولايات وخصوصا في دارفور وولاية الخرطوم حيث يضطر الأهالي للفرار تحت وطأة القصف والجوع وانعدام الأمن بينما تنتشر حالات المجاعة وسوء التغذية وسط آلاف الأسر التي فقدت كل شيء ويشير عاملون ميدانيون إلى أن المناطق التي نفذ فيها الدعم السريع عمليات اقتحام تشهد دماراً شبه كامل للبنية المدنية وانهياراً للخدمات الصحية وتوقفاً لمراكز علاج المرضى وانتشاراً للأوبئة في ظل نقص شديد في المياه والغذاء والدواء. كارثة إنسانية تهدد المجتمع هذا الأثر الإنساني العميق جعل منظمات الأممالمتحدة تحذر من أن السودان يقترب من كارثة إنسانية كاملة وأن استمرار الانتهاكات يهدد بانهيار شامل للمجتمع وقد دفعت خروقات الهدنة إلى فقدان الأهالي الثقة في أي إعلان يصدر عن الدعم السريع خصوصاً مع تكرار حالات استهداف القرى رغم الإعلان عن وقف إطلاق النار وتكرار الهجمات العشوائية على الأسواق والمستشفيات ومراكز الإيواء وتزايد الجرائم التي تطال النساء والأطفال الذين أصبحوا الفئة الأكثر تضرراً من استمرار التصعيد العسكري. أما على المستوى السياسي والعسكري فإن استمرار هذه الازدواجية يعمق الأزمة ويقوض أي فرص لعملية سلام جادة إذ يرى محللون أن الدعم السريع يحاول استخدام إعلان الهدنة كورقة سياسية تعطيه مساحة للمناورة وتخفيف الضغوط الدولية وإعادة تنظيم قواته بينما يعمل في الوقت ذاته على توسيع نفوذه الميداني والسيطرة على مزيد من المناطق عبر استخدام القوة مما يزيد من تعقيد المشهد ويجعل أي مفاوضات مستقبلية أكثر صعوبة في ظل فقدان الثقة بين الأطراف وغياب أي أرضية مشتركة للحوار. وعلى صعيد التوازنات الإقليمية والدولية جاءت ردود الفعل متباينة حيث دعت دول عربية وإفريقية إلى ضرورة وقف العنف والعودة إلى طاولة المفاوضات فيما صدرت بيانات غربية تحمل نبرة أكثر صرامة تنتقد الانتهاكات الخطيرة وتطالب بفتح ممرات إنسانية وتفعيل آليات المساءلة ويرى مراقبون أن تزايد الإدانات الدولية يعكس تحولاً واضحاً في النظرة العالمية تجاه الدعم السريع وأنه أصبح طرفاً يصعب التعامل معه نتيجة التناقضات في خطابه والانتهاكات التي تم توثيقها على نطاق واسع مما دفع بعض الدول إلى إعادة تقييم مواقفها السياسية. فاعلية دور المملكة وفي هذا المشهد المضطرب يبرز الدور السعودي بوصفه أحد أكثر الأدوار توازناً وفاعلية في دعم السودان سياسياً وإنسانياً حيث دفعت المملكة منذ البداية نحو مسار يهدف إلى وقف الحرب عبر محادثات جدة التي وفرت إطاراً للحوار بين الأطراف السودانية ووضعت أسساً فنية وإنسانية تمهد لوقف إطلاق النار كما عملت المملكة على تعزيز موقف الحكومة الشرعية ودعمت الجهود الإقليمية التي تسعى إلى حماية وحدة السودان وسيادته. وعلى المستوى الإنساني قدمت المملكة دعماً واسعاً للشعب السوداني عبر مبادرات نوعية نفذها مركز الملك سلمان للإغاثة شملت الغذاء والدواء والمأوى إضافة إلى الجسر الجوي الذي نقل مساعدات إلى مناطق عدة وكذلك استقبال آلاف المدنيين في الموانئ السعودية وتوفير الرعاية لهم وتسهيل انتقالهم إلى وجهاتهم النهائية وهو دور يعكس مكانة الرياض وثقلها الإنساني والتزامها الدائم بدعم الشعوب المتضررة دون قيد أو شرط. كما أكدت المملكة في مواقفها السياسية ضرورة احترام سيادة السودان ورفض أي محاولات لفرض واقع عسكري مخالف لإرادة الشعب ودعت إلى وقف الهجمات وحماية المدنيين وفتح ممرات إنسانية وإطلاق عملية سياسية شاملة يقودها السودانيون بأنفسهم بعيداً عن تدخل الميليشيات أو الحسابات الضيقة وتوضح البيانات السعودية أن الحل لا يمكن أن يتحقق في ظل استمرار الانتهاكات وأن وقف جرائم الدعم السريع يمثل خطوة أساسية نحو استعادة الاستقرار. نقطة توازن ومع تزايد تعقيد المشهد يرى محللون أن الدور السعودي بات يشكل نقطة توازن ضرورية في ظل الاضطراب الإقليمي وأن دعم المملكة للسودان يقوم على رؤية واضحة تجعل من حماية المدنيين أولوية ومن وحدة الدولة أساساً لأي حل كما أن وجود الرياض في قلب الجهود السياسية يعزز الثقة الدولية بفرص السلام ويخلق مناخاً يساعد على الضغط لوقف جرائم الدعم السريع وإنهاء الفوضى التي خلفتها تلك الممارسات. الانتهاكات المتصاعدة وانهيار الثقة تبدو الأزمة السودانية متجهة نحو منعطف حاسم إذ أصبحت الانتهاكات المتصاعدة وانهيار الثقة وتفاقم الأزمة الإنسانية عوامل تضغط بقوة نحو البحث عن حل يوقف النزيف بينما يدرك الشعب السوداني أن مستقبل بلاده مرهون بوقف الانتهاكات ومحاسبة المسؤولين عنها وأن أي هدنة لا تنفذ على الأرض ليست سوى عنوان وهمي لا يغير من واقع الألم شيئاً وفي مقابل خطاب الدعم السريع الذي يسعى إلى تحسين صورته إعلامياً تتكشف الحقائق الميدانية لتكشف أن الفجوة بين ما يعلن وما يمارس باتت واسعة إلى حد يصعب ترميمه وأن الانتهاكات التي ارتكبها جعلته طرفاً فاقداً للشرعية داخلياً ومتراجعاً دولياً. وفي ظل هذه الصورة القاتمة يبقى الأمل معلقاً على جهود عربية وإقليمية صادقة وفي مقدمتها جهود المملكة العربية السعودية وعلى تمسك الشعب السوداني بوحدة دولته وبحقه في الأمن والاستقرار في مواجهة الميليشيات التي تجاوزت كل الخطوط وفرضت واقعاً لا يمكن للشعب السوداني أن يقبل به أو يتعايش معه ومن هنا تبرز أهمية التحرك الدولي المتوازن والمسؤول الذي يدفع نحو وقف المأساة ويفتح الطريق لمرحلة جديدة تلتئم فيها الجراح وتستعيد الدولة السودانية قوامها وتعود للمواطنين حياتهم التي يستحقونها. شهادات الضحايا وبيانات المنظمات في مشهد الفوضى التي أعقبت سقوط مدينة الفاشر بيد قوات الدعم السريع تتكشف يومياً شهادات صادمة من ناجين فروا بعد تعرضهم للاحتجاز والتعذيب والابتزاز في قرى ومواقع متعددة حول المدينة حيث تحولت مناطق سيطرة الدعم السريع إلى فضاء مغلق تدار داخله عمليات اعتقال انتقائية وابتزاز مالي واعتداءات واسعة النطاق وسط انهيار كامل لسيادة القانون وغياب أي ضمان لسلامة المدنيين. يروي أحد الناجين أنه غادر الفاشر بعد سيطرة الدعم السريع عليها لكن عناصر من القوة ألقوا القبض عليه ضمن مجموعة من أربعة وعشرين رجلاً في قرية أم جلبخ وأجبر مع ابن شقيقه على جمع عشرة ملايين جنيه سوداني من أسرته قبل الإفراج عنه مؤكداً أن تسعة رجال آخرين قتلوا أمامهم في مشهد يجسد حجم الانتهاكات التي وثقتها منظمات محلية ودولية خلال الأسابيع الماضية. ويؤكد ناجون التقتهم وكالات دولية أن الاحتجاز والابتزاز أصبحا ممارسة ممنهجة حيث يتعرض المعتقلون للضرب والاستجواب على أساس الانتماء القبلي قبل مطالبة أسرهم بفدى مالية باهظة وفي إحدى الحالات استخدمت عناصر من الدعم السريع جهاز انترنت عبر الأقمار الاصطناعية للاتصال بأسرة أحد المختطفين بهدف التفاوض على مبلغ الفدية في مشهد يعكس تنظيما واضحاً لهذه العمليات وتزايد اعتماد القوات على الفدى كوسيلة تمويل في ظل غياب رواتب منتظمة. وتشير تقديرات المنظمة الدولية للهجرة إلى فرار أكثر من مئة ألف شخص من الفاشر منذ سيطرة الدعم السريع عليها بينما وصلت آلاف الأسر إلى طويلة وتشاد في حين بقي معظم الفارين محاصرين في قرى يسيطر عليها الدعم السريع مثل قرني وكورما وأم جلبخ وتوثق صور الأقمار الصناعية إنشاء مئات المساكن المؤقتة في تلك المناطق مما يرجح احتجاز مدنيين لفترات طويلة. وتكشف شهادات النساء عن نمط من الانتهاكات لا يقل خطورة حيث قالت محتجزات سابقات إنهن تعرضن لعصب أعينهن واغتصابهن عدة أيام فيما شهدت أخريات اعتداءات مماثلة وهو ما يتسق مع تقارير حقوقية تؤكد استخدام الاغتصاب الجنسي كسلاح لبث الرعب في المجتمعات المتضررة. وتظهر روايات الناجين من داخل الفاشر نفسها أن المحتجزين يُنقلون إلى مبانٍ حكومية ومقار عسكرية وسكن جامعي حيث يجري احتجازهم مقابل فدى مالية ويصف معلم في الثانية والستين من العمر احتجازه في مستشفى الفاشر للأطفال مع مئات الرجال دون ماء أو طعام كاف لدرجة اضطرارهم للشرب من بركة راكدة تبين لاحقا أنها مياه صرف صحي وقال إن نحو ثلاثمئة رجل لقوا حتفهم في تلك الظروف القاسية وفق شهادات أخرى متطابقة. كما سجل ناجون عمليات قتل مباشرة بحق محتجزين حاولوا الهرب أو عجزت أسرهم عن دفع الفدى فيما تُظهر صور وشهادات من الطريق بين الفاشر وزالنجي جثث رجال قتلوا بعد إطلاق النار عليهم في الرأس والصدر عقب اختطافهم. ورغم نشر الدعم السريع مواداً مصورة تزعم تقديم رعاية طبية وغذائية للمدنيين تدحض شهادات الناجين تلك الرواية إذ قالت ممرضة احتجزت لدى القوة إنها صُوِّرت وهي تتلقى الطعام بينما كانت تتعرض في الحقيقة للضرب والإكراه مؤكدة أن هذه اللقطات جزء من حملة دعائية تسعى لتجميل صورة القوة أمام الرأي العام. المشهد العام كما تصوره شهادات الضحايا وبيانات المنظمات يكشف أن ما يجري في الفاشر ومحيطها يتجاوز مجرد تجاوزات فردية إلى منظومة متكاملة من الاحتجاز والابتزاز والانتهاكات الجسيمة وأن محاولات التنصل لا تنفي مسؤولية القوة المسيطرة على الأرض ولا تخفف من وطأة المأساة التي يعيشها المدنيون وسط تدهور إنساني يتسع يومياً ويهدد حياة الآلاف في ظل حرب مفتوحة لا تظهر لها نهاية قريبة. المساعدات الإنسانية لمركز الملك سلمان مستمرة للسودان الفاشر تتعرض للقصف الجوي من الدعم السريع