أساسُ حفظ النّعم وجلب المصالح ودرءِ المفاسد هو التئامُ صفِّ الجماعة خلف قيادتها، وقد منَّ الله تعالى علينا في دولتنا المباركة بهذه النّعمة، فعلى كلٍّ منّا السعيُ في حفظ هذه النعمة بشكر واهبها، وبذل كل الأسبابِ المؤدية إلى استبقائها.. نعمُ الله تعالى لا تحصى، وأوَّلها نعمتُه تعالى على عباده بالخلقِ والإيجادِ، ثم ما تلاه من كلّيَّات النعم وجزئيّاتِها، ومن اللائق بالمنعَم عليه أن يصونَ النعمةَ، وأن يحرسَها من أسبابِ الاختلالِ والتَّلاشِي، وأهمُّ ما يعينه على ذلك: استحضارُ عظمةِ واهبها سبحانه وتعالى؛ فإذا كانَ الإنسانُ يحتفي بالمنحةِ الواصلة إليه من يدِ إنسانٍ آخرَ ذي مكانةٍ مرموقةٍ، ويتشرَّف بها، ويعظِّمها ويصونها ولا يبتذلها، فمن باب أولى أن يحتفي بالنِّعم، وأن يحفظها إذا استحضر أنّها منحٌ إلهيَّةٌ، تستحق العنايةَ والحفاوة والصيانةَ؛ فمن عرف قدر نعم الله تعالى سعدَ بكونِه أهلاً لنيلِ هذه المنحةِ، واستحيا من أن يتسبّبَ في زوال ذلك، ونشطتْ نفسُه إلى صيانتِها، وثقُل عليه أن يفلِتَ ما بحوزته منها، ولمّا كانتِ النعمُ تشمل الدينيَّةَ والدنيويّة، سواءٌ المعنويةُ والماديّةُ منها، والظاهرةُ والخفيّة، كان حفظُ النعمةِ عنواناً عريضاً يندرج فيه عمل الإنسانِ لآخرته ودنياه، وما يبذله من المساعي الرامية لسعادة الدّارينِ، فيدخل في حفظِ النعمةِ كلُّ المساعي الحميدةِ التي تبذل لجريانِ أمورِ الدينِ والدنيا على السّدادِ، وما من مضيِّعٍ لشيءٍ من مصلحةِ دينِه وحياتِه إلا وهو مهدِرٌ للنّعم بقدر ذلك التَّضييعِ، فالموفّقُ من يستزيد نعمةَ الله تعالى، ويجتهدُ في حفظها، ولي مع حفظ النِّعَم وقفات: الأولى: على الإنسانِ أن يدركَ أنَّ حفظ النّعمِ مطلبٌ ضروريٌ، وليسَ من بابِ الكماليّاتِ، وأنَّ تضييعَها مُنافٍ لما أمرَ اللهُ تعالى به عبادَه من الإصلاحِ في الأرضِ، والتفريطُ في حفظِها خسارةٌ كبيرةٌ، وذلك ليس مجرّد فواتِ فرصةٍ تفوت الإنسانَ، بل وراءه حسرةٌ وندامةٌ، وأكبرُ أنواعِ إهدارِ النِّعَمِ عدمُ الانتفاعِ بالنعمةِ الدينيّةِ، بأن لا ينتفع الإنسانُ بما أنعمَ الله تعالى به على عبادِه من تبيينِ الصراطِ المستقيم الهادي إليه، وما أعانهم به على ذلك من خلقِهم على الفطرة، وإمدادهم بالعقول المميّزةِ بين الحقِّ والباطلِ، والتفريط في هذه النعمةِ تعقُبه حسرةٌ عظيمةٌ إذا أصرَّ عليه الإنسانُ إلى أن يلقى ربّه،كما قال تعالى: (أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتى عَلى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِين)، والمعضلةُ في هذه الحسرةِ أنها لا توجد بعدها فرصةٌ للاستدراك وتصحيح المسارِ، أما النِّعمُ الدنيويّةُ بكل أنواعها فالتفريط فيها يورثُ الندامةَ والحسرةَ، ويستحقُّ فاعله الملامةَ، وهذا اللومُ يتعرَّض له المفرِّطُ من نفسِه، فإنه لا يخلو من جلد الذاتِ على إهماله، ويتعرَّضُ له من الآخرين، فيسمعه أحياناً من ألسنةِ بعض الناسِ، ويقال وراءه أحياناً كثيرةً، ويرى من نظراتِ العيونِ ما يدل عليه، ولو نجا من هذا -ولا يكاد ينجو منه- لم يخل من أن يتعرضَ للملامةِ بلسانِ الحال؛ فإنَّ واقعه يُفصح عن إهماله، وهذا محذورٌ لا ينبغي للعاقل أن يتجاسرَ عليه، ولما أمرنا الله تعالى بعدم إهدار نعمةِ المالِ عقّب ذلك بالتذكير بما يحصلُ عقبَ ذلك من الحسرة والملامةِ، فقال: (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً). الثانية: من الأسبابِ المعينةِ على حفظِ النعم -وهذا شاملٌ لكل النِّعمِ- الاعتراف بها لواهبها، وإدمانُ شكره عليها، وأنْ يواظِب على دعاء ربِّه أن يعافيه فيها، فذلك من سنةِ المصطفى صلى الله عليه وسلم، فمن أدعية الصباح والمساء التي يواظب عليها النبيُّ صلى الله عليه وسلّم: (اللهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْعَافِيَةَ، فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، اللهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ، فِي دِينِي وَدُنْيَايَ، وَأَهْلِي وَمَالِي..)، وقوله: (اللهُمَّ عَافِنِي فِي بَدَنِي، اللهُمَّ عَافِنِي فِي سَمْعِي، اللهُمَّ عَافِنِي فِي بَصَرِي، لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ)، وهاتان الصيغتان تتضمنان عموم الدعاء بالعافية، وذلك يشمل تحصينَ كل النّعم، لكن فيهما التنصيص على أهمها، (الدين والصحة والأهل والمال)، فإنها أغلى النِّعَم، وحفظها سبب السعادةِ في الدارين، ويشرعُ مع الدعاءِ بالمعافاةِ فيها الأخذُ بالأسبابِ التي تُحصِّنها؛ فإنَّ الجمع بين الدعاءِ والأخذ بالأسبابِ هو المشروعُ، فعلى الإنسانِ أن لا تعوقه المصاعبُ عن تحمُّل مسؤوليته في صيانةِ نعم الله تعالى عليه جميعاً، كلٌّ بحسبِ آلاتِ حفظها الشرعية والنظامية والعرفية. الثالثة: من ركائز النعم نعمةُ الأمنِ والاستقرارِ تحت قيادة وليِّ الأمر؛ فإنَّ هذه النعمةَ إذا توفّرتْ أمكنَت صيانةُ جزئيّاتِ النعمِ، وبتوفُّرها تُصانُ الضرورياتُ من دينٍ ونفوسٍ وعقولٍ وأموالٍ وأعراضٍ، فبوليِّ الأمر نِيطتْ مهمةُ الدفعِ في صدورِ منتهكي هذه الضرورياتِ، فليس من المعقولِ أن يتصوَّر الفردُ أنه يحفظ شيئاً من المصالح والنعمِ، أو يدفعُ شيئاً من المفاسدِ بفكرٍ أو تصرُّفٍ يشوّش على السلم المجتمعيِّ، وأمنِ الوطنِ، ووحدة الصّفِ؛ لأنَّ ذلك عبارةٌ عن محاولةِ بناءٍ بدون أساسٍ، فأساسُ حفظِ النّعمِ وجلبِ المصالحِ ودرءِ المفاسدِ هو التئامُ صفِّ الجماعة خلف قيادتِها، وقد منَّ الله تعالى علينا في دولتنا المباركة المملكةِ العربيةِ السعودية بهذه النّعمة، فعلى كلٍّ منّا السعيُ في حفظ هذه النعمةِ بشكر واهبها تعالى، وبذل كل الأسبابِ المؤدية إلى استبقائها.