قيل لي ذات يوم: لقد أساؤوا إليك كثيراً، لماذا لا تردين؟ ابتسمت وقلت: لأن الانتقام لا يُطفئ وجعاً، ولا يُعيد كرامةً سُلبت، ولا يُصلح قلباً كُسر. سأدع الخلق للخالق، وأمضي. التسامح لا يعني ضعفاً، ولا يُلغِي الذاكرة، بل هو وعيٌ عميق بأن القلب لا يُشفى بالحقد، وأن السلام لا يولد من الصراع، بل من الرضا. هو أن تُعيد ترتيب مشاعرك بوعي، وتضع الألم في مكانه الصحيح، لتعيش بقلبٍ نقيّ لا يرهقه الكره. كم من علاقاتٍ انتهت بسبب كلمة، وكم من صداقاتٍ تلاشت بسبب عناد، وكم من قلوبٍ أنهكها الغضب حين كان يمكن لابتسامةٍ واحدة أن تُعيد الحياة. نعيش زمناً تتعالى فيه الأصوات وتغيب فيه النيات، يُستبدل فيه الاعتذار بالتبرير، ويُنظر إلى التسامح على أنه ضعف، بينما الحقيقة أن أقوى الناس من يملكون أن يؤذوا فيختارون ألّا يفعلوا. وقد جعل الله الصفح من شيم المؤمنين، فقال تعالى: ( فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ ) (الحجر: 85)، كما قال : ( وَلَا تَنسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ ) (البقرة: 237). آيتان تختصران فلسفة الحياة كلها؛ أن الصفح رفعة، والعفو نجاة، وأن الكرامة لا تُصان بالانتقام بل بالسمو. يبدو أننا أصبحنا نحتاج إلى يومٍ عالمي يذكّرنا بما كان يومًا فطرةً فينا. أصبحنا نحتفل بالتسامح وكأنه فكرة نادرة، لا خُلقًا أصيلًا. نُعلّم أبناءنا أن العفو جميل، ثم نُربيهم على ردّ الإساءة بالإساءة. نتحدث عن الصفح في المجالس، ونخسر أقرب الناس إلينا على سوء فهم لم يُمنح فرصة التوضيح. كيف وصلنا إلى زمنٍ يُخاف فيه من الطيبة، ويُتّهم فيه المتسامح بالضعف؟ هل تغيّرت القيم... أم تغيّرنا نحن حين جعلنا الكبرياء أغلى من راحة القلب؟ ربما المشكلة ليست في أن الناس لا يعرفون قيمة التسامح، بل في أنهم فقدوا الشجاعة ليعيشوه؛ فالتسامح اليوم ليس مجرّد خُلق، بل موقف بطولي في عالمٍ يؤمن بالرد لا بالصفح. علّموا أبناءكم أن القوة ليست في الرد، بل في الهدوء، وأن الشجاعة ليست في الغضب، بل في القدرة على العفو. سامحوا، فالتسامح لا يُغيّر الماضي، لكنه يُجمّل الحاضر، ويُمهّد لطريقٍ أكثر نقاءً وسلامًا. وفي النهاية هل نُسامح لأننا حقًا تجاوزنا، أم لأننا خفنا أن نُكمل الحياة ونحن نحمل وجعها؟