يشهد العالم المعاصر تحولات رقمية متسارعة غيرت أنماط الحياة اليومية، ودفعت المجتمعات إلى التفاعل مع التقنية بوصفها جزءًا أساسيًا من الرفاهية الحديثة. وفي المملكة العربية السعودية، حيث يشكل الشباب النسبة الأكبر من السكان، برز مفهوم الرفاهية الرقمية كأحد المظاهر الجديدة لنمط الحياة المتقدم الذي يجمع بين الاستفادة من التقنية وتحقيق التوازن النفسي والاجتماعي في ظل بيئة رقمية متشابكة. الرفاهية الرقمية لا تعني مجرد امتلاك أحدث الأجهزة الذكية أو الوصول إلى الإنترنت بسرعات عالية، بل تتجاوز ذلك لتشمل الوعي بكيفية الاستخدام المتوازن للتقنية بما يحافظ على الصحة النفسية والجسدية والعلاقات الاجتماعية. فهي تمثل أسلوب حياة يقوم على التفاعل الواعي مع العالم الرقمي، واستثمار التقنية لتطوير الذات دون الانغماس المفرط الذي يفقد الإنسان حيويته وتواصله الواقعي. لقد كانت السعودية من الدول السباقة في مجال التحول الرقمي، إذ تبنت رؤية 2030 التي جعلت التقنية ركيزة أساسية في التنمية المستدامة، فشهدت المؤسسات الحكومية والقطاع الخاص تحولًا واسعًا نحو الخدمات الإلكترونية، وتوسع التعليم والعمل عن بُعد، وظهرت مجالات جديدة لريادة الأعمال الرقمية. وفي خضم هذا التطور، وجد الشباب السعودي أنفسهم في قلب هذه المنظومة، فهم الفئة الأكثر إلمامًا بالتقنية والأسرع تكيفًا مع متغيراتها، وقد مكنتهم البيئة الرقمية من التعلم والعمل والتواصل بطرق لم تكن متاحة من قبل. ومع كل هذه المكاسب، ظهرت تحديات لا يمكن تجاهلها. فقد أدى الاستخدام المفرط للأجهزة الذكية ومواقع التواصل الاجتماعي إلى بروز ظواهر جديدة مثل العزلة الاجتماعية، وضعف التواصل الأسري، والتوتر النفسي الناتج عن المقارنات الدائمة مع الآخرين في الفضاء الإلكتروني. كما لوحظت زيادة في حالات اضطراب النوم وضعف التركيز بسبب الاعتماد الزائد على الشاشات، الأمر الذي أفرز ما يعرف بإدمان الإنترنت، وهي مشكلة تؤثر على جودة الحياة وصحة الفرد النفسية والجسدية. وتشير دراسات ميدانية إلى أن بعض الشباب باتوا يقضون أكثر من ثماني ساعات يوميًا أمام الأجهزة، وهو ما ينعكس سلبًا على نشاطهم اليومي وتحصيلهم العلمي والاجتماعي. ومن هنا، بدأت الجهود الوطنية تتجه نحو بناء وعي رقمي متوازن يحقق الاستفادة القصوى من التقنية دون الإضرار بالصحة العامة. وقد أطلقت العديد من الجهات الحكومية والأهلية في السعودية برامج ومبادرات تعزز مفهوم الرفاهية الرقمية، مثل مبادرة "العالم الرقمي الآمن" التي تنظمها هيئة الاتصالات والفضاء والتقنية، إلى جانب جهود وزارة التعليم التي أدرجت مفاهيم "المواطنة الرقمية" ضمن المناهج الدراسية، بهدف توعية الطلاب بآداب الاستخدام الرقمي وحماية الخصوصية والتعامل الأخلاقي عبر المنصات الإلكترونية. كما نفذت الجامعات السعودية حملات توعوية مثل "افصل لتتصل" و"ساعتك بلا شاشة"، لتشجيع الطلاب على تخصيص أوقات للراحة الذهنية والانخراط في أنشطة واقعية بعيدًا عن الأجهزة الذكية. وتبرز أهمية الأسرة هنا كعنصر أساسي في تحقيق التوازن الرقمي، إذ تقع على الوالدين مسؤولية توجيه الأبناء نحو الاستخدام الآمن للتقنية ومراقبة المحتوى الذي يتعرضون له. كما تلعب المؤسسات الإعلامية دورًا في ترسيخ ثقافة الرفاهية الرقمية عبر التوعية المستمرة بخطورة الإدمان الإلكتروني وأهمية تنظيم الوقت الرقمي اليومي. إن الرفاهية الرقمية باتت مؤشرًا حضاريًا يعكس مدى نضج المجتمع في التعامل مع التقنية الحديثة. فكلما ازداد وعي الأفراد بأهمية الاستخدام المتوازن للأجهزة والمنصات، ارتفع مستوى جودة الحياة وتعززت العلاقات الاجتماعية. ومن هذا المنطلق، فإن الاستثمار في الرفاهية الرقمية لا يعد ترفًا، بل ضرورة وطنية لبناء مجتمع واعٍ قادر على مواكبة التطور دون أن يفقد توازنه القيمي والإنساني. ومع استمرار التقدم الرقمي في المملكة، فإن المرحلة القادمة تتطلب ترسيخ مهارات "الذكاء الرقمي" لدى الشباب، ليكونوا قادرين على إدارة وقتهم ومعلوماتهم بوعي ومسؤولية، وتحقيق الانسجام بين التطور التقني والحياة الواقعية. فالتطور الحقيقي لا يُقاس بعدد الأجهزة أو سرعة الإنترنت، بل بقدرة الإنسان على توظيف التقنية لخدمة أهدافه دون أن تتحكم في مساره أو تسرق طاقته. إن الرفاهية الرقمية اليوم ليست ترفًا بل أسلوب حياة متوازن يضمن للشباب السعودي القدرة على التفاعل الإيجابي مع التحول التقني، ويحافظ في الوقت ذاته على قيمهم الإنسانية وصحتهم النفسية. وحين يدرك الشاب أن قيمته لا تُقاس بعدد المتابعين ولا بعدد الإعجابات، بل بمدى وعيه في استخدام التقنية لصالحه لا ضده، عندها يمكن القول إنه بلغ الرفاهية الحقيقية في عالم رقمي متسارع.