في عالمٍ تتسارع فيه التحوّلات وتزدحم فيه التقارير بالمؤشّرات والأرقام، يبرز سؤال جوهري: هل تكفي هذه المؤشرات لتعكس الجودة الحقيقية للأداء في مختلف القطاعات؟ الأرقام تمنح وضوحًا، وتسهّل المقارنة، وتدعم صانع القرار، لكنها تبقى أداة للقياس لا غاية بحد ذاتها. وعندما تتحوّل المؤشرات إلى هدف نهائي، تفقد قيمتها، ويغيب الأثر الذي يُفترض أن يعكسه الأداء على حياة الإنسان. ويُعدّ قطاع التعليم أحد أبرز الميادين التي تكشف الفارق بين لغة الأرقام وأثر جودة الأداء. فقد حافظت فنلندا على تميزها في اختبارات (PISA) الدولية بفضل تقليل الاعتماد على الاختبارات القياسية والتركيز على تنمية مهارات القراءة والتفكير النقدي، الأمر الذي انعكس في نتائج متقدمة ومستدامة. وفي المقابل، اعتمدت الولاياتالمتحدة منذ عام 2001 سياسة «عدم ترك أي طفل خلف الركب»، فارتفعت المؤشرات القياسية، غير أن الدراسات والانتقادات أشارت إلى محدودية أثرها في تنمية الإبداع وبناء القدرات، وهو ما أدى إلى بقاء أدائها دون مستوى التوقعات في الاختبارات الدولية. ولا يقل القطاع الصحي وضوحًا في هذا السياق، إذ يكشف بجلاء أهمية التوازن بين الكم والكيف. فقد أظهرت تجارب كندا وألمانيا أن النجاح لا يُقاس بعدد المستشفيات أو حداثة الأجهزة فقط، بل برضا المريض وجودة حياته بعد العلاج، وهو ما عزّز الثقة المجتمعية بالنظام الصحي. وفي المقابل، ركزت بعض الدول النامية على رفع مؤشرات السعة (أسرّة، أجهزة، منشآت)، غير أنّ أثر جودة الأداء ظل محدودًا، فظهرت تحديات في مستوى الخدمات الطبية، وسُجّلت ملاحظات من المرضى حول جودتها واستمرار بعض أوجه القصور. ويمثل البحث العلمي بدوره ميدانًا آخر يبرهن على أن الأثر أبقى من المؤشرات. فقد خصصت كوريا الجنوبية أكثر من 4 % من ناتجها المحلي للبحث والتطوير، ما عزّز تنافسية صناعاتها التقنية ومكانتها العالمية. كما جسّدت سنغافورة نموذجًا متقدّمًا بربط الجامعات بالقطاع الإنتاجي، وهوما انعكس في ارتفاع معدلات الابتكار وتزايد براءات الاختراع. أما في السياق الوطني، فقد حققت الجامعات السعودية والمراكز البحثية تقدمًا ملحوظًا في التصنيفات العالمية خلال السنوات الأخيرة، مدفوعة بزيادة النشر العلمي وارتفاع معدلات الاستشهادات الأكاديمية. غير أن التصنيفات تبقى وسيلة لا غاية؛ فالمعيار الأهم هو جودة الأداء وقدرة هذه المؤسسات على تحويل المعرفة إلى أثر ملموس في الاقتصاد والمجتمع. ورغم أن بعض المبادرات الواعدة بدأت تؤتي ثمارها؛ مثل الشراكات مع القطاع الصناعي ومشاريع الابتكار في الطاقة والذكاء الاصطناعي إلا أن المرحلة المقبلة تتطلب تعميق هذا التوجه، بحيث يصبح الأثر المستدام على التنمية الوطنية هو المعيار الحقيقي للجودة، لا مجرد التسابق على مؤشرات التصنيف. ختامًا تبقى المؤشرات أرقامًا تتغير مع الزمن بينما الأثر هو المعيار الأصدق للجودة. فالجودة لا تُختزل في تقارير أو جداول بل تُقاس بقدرتها على تنمية المعرفة وبناء العقول ورعاية الإنسان وتعزيز الابتكار. وهذه هي البوصلة التي تقود مسيرة المملكة في طريقها نحو رؤيتها الطموحة 2030 حيث تتحول المؤشرات إلى منجزات واقعية ويغدو الأثر المستدام عنوانًا لمكانة الوطن ومصدر فخر لأبنائه. * عضو مجلس الشورى