في أحد الأيام من عام 2003 للميلاد فتح بي باب المصعد بالخطأ في الدور الأول بمبنى مؤسسة اليمامة الصحفية لأجد نفسي تائهاً في ممرات هادئة أخذتني لرؤية من بداخل مكاتبها وممراتها الاخرى من الجالسين والعابرين حواجز زجاجية رافقتني يمنة ويسرة إلى مكتب رجل رأيته مهيب في قامته ومقامه لأسأله: اتدلني على مكتب خلدون السعيدان - وكان خلدون حين ذاك مديراً لمكتب رئيس تحرير صحيفة الرياض - المغفور له- الاستاذ تركي السديري (وكان ينتظرني تلك الدقائق للعمل في صحيفة الرياض) قام الرجل المهيب من خلف مكتبه واستقبلني وأجلسني لتناول فنجان قهوة تركية معه في ركن ضيافة مكتبه الواسع وقال: انا اخوك سعود العتيبي مدير تحرير مجلة اليمامة قلت: اعتذر منك هذا شأن موعدي الآن لدى مكتب الرئيس السديري وكنت اعتقد هنا أنني في صحيفة الرياض. قال بالحرف الواحد: (تعال اليمامة وخل عنك الرياض) ثم أضاف: أنا استطيع آخذك الآن هناك ولكن لن تفعل الا ما آمرك به، من اليوم أنت في مجلة اليمامة وهذا مكتبك ليشير الى مكتب أمام مكتبه بخطوات وأضاف: خلدون أكلمه الآن لإلغاء موعدك معه ونسيان أمرك، وبالفعل زادني حباً وحماساً للعمل في مجلة اليمامة من تلك اللحظة احتفاء وترحيب رئيس تحريرها د.عبدالله الجحلان ومدير تحريرها الآخر فهد العبدالكريم - يرحمه الله - بي في ذلك اليوم ومباركتهما قرار سعود العتيبي بضمي لأسرة تحرير اليمامة، لتبدأ مع الصحفي الراحل الكبير سعود العتيبي أولى خطواتي الجادة في العمل الصحفي - لأنه سبق تلك الخطوات الجادة أخرى متقطعة في مجلتي اليقظة وأصايل - وما دعاني لإستدعاء هذه الذكرى الجميلة لي معه - يرحمه الله - أنه عندما استيقظت في الخامس عشر من سبتمبر لعام 2025 م على خبر وفاته - يرحمه الله - وكأن المملكة العربية السعودية تودع قمر فضائها الصحفي في ليلة اكتمال بدر سمائها الفلكي منذ لحظة وداعه - يرحمه الله - وأنا استعيد بالذاكرة مواقفه الداعمة لتمكين الجيل الشاب وتحفيزه للإبداع في العمل الصحفي ومواقفه الانسانية العديدة مع العاملين البسطاء في مؤسسة اليمامة الصحفية وعلى أن الكل في "اليمامة" يعلم أن أبا طلال هو الصحفي القدير والمسئول الكبير إلا إنهم يجدونه الإنسان القريب منهم، المتواضع معهم، السند لهم، في المهمات الصعبة والمواقف الحرجه. كان مكتبي بجوار مكتب استاذنا القدير راشد ابن جعيثن رئيس الأدب الشعبي في المجلة أمام مكتب سعود - يرحمه الله - وكان يجتمع مع راشد احياناً في مكتبي للنقاش عن نجوم الشعر الشعبي ومحتوى صفحات الشعر والأدب وكذلك كان يفعل رحمه الله مع الزملاء مشرفي الصفحات الفنية والرياضية والثقافية والاقتصادية والسياسية فأرى ذلك وأقول: يا لثقافة هذا الرجل وسعة اطلاعه والله إنك لتسمع منه عن الرياضة وتعجب بسعة معرفته بأحداثها ونجومها وحتى صراعات أقلامها ورغم هلاليته - يرحمه الله - إلاّ إنه من أجمل من كتب عن النصر وماجد وعبدالرحمن ابن سعود - يرحمه الله - وفي قراءاته الاقتصادية تقف مذهولاً أمام خلو رصيده البنكي من المال وهو من يملك تلك الخزينة المعرفية الهائلة بقراءات سوق المال والأعمال، وعن نجوم الفن ودهاليز السياسة وأروقة الثقافة ترى منه العجب العجاب في علمه بها ودرايته عنها وإدارته لصفحاتها وما يكتب عنها بدقة عالية ومهنية واعية. سعود العتيبي كنت لا أمل وانا اتحدث إليه حياً فكيف يقف بي المداد بالكتابة عنه ميتاً - يرحمه الله - لكن دعوني أختم هنا بأحد المواقف الطريفة له - يرحمه الله - : كنت ذات يوم جالساً في مكتبي وكان الوقت متأخراً والهدوء يعم المكان حتى لأسمع رشفة القهوة من فمه - يرحمه الله - ولم يكن في مكاتب التحرير وقيادته سوى أنا وهو وإذ بي أرى المغفور له بإذن الله أ. تركي السديري - وهو صاحب المقام الصحفي الرفيع والمكانة الإدارية المرموقه في الصحافة السعودية والخليجية والعربية عامةً وفي مؤسسة اليمامة الصحفية خاصةً - واضعاً يديه خلف ظهره ويمشي الهوينا وكأنه يتفقد المكان وقاطنيه سالكاً طريقه لمكتب سعود العتيبي - يرحمه الله - وعندما رآني السديري انظر له أشار لي أن أجلس مكاني ولا اتكلم، وكانت من طقوس سعود - يرحمه الله - أحياناً في جلسة الاسترخاء العمليه لديه عندما يخلو المكان، أن يجلس خلف مكتبه واضعاً قدميه على بعضهما البعض اعلى طاولة المكتب ويأخذ في قراءاته الصحفية فسحة من الغياب الزمكاني، وبينما هو في تلك الحالة وقف أ.تركي على باب مكتبه وهو ينظر لي وله مبتسماً وأبا طلال متكئاً على كرسيه للخلف رافعاً قدميه وصحيفته التي يقرأها أمام ناظريه ولا يرى أحداً، حتى سمع ضحكة السديري الذي شاطره الضحك حينها وهو محرجاً منه بعد أن خرج مرحباً به ومعتذراً له ليقاطعه أ.تركي ويدعوني لهما ويقول لأبي طلال لو لم أشتري صمت هذا وسكوته عنك لفسدت فرحتي اليومي برؤيتك هكذا، رحم الله القامتين الصحفية تركي السديري وسعود العتيبي وجمعنا ووالدينا وأموات المسلمين بهما في جنات النعيم. * سعود القحطاني مدير عام إذاعة هنا العزم هيئة الاذاعة والتلفزيون