عندما أعلنت وزارة الثقافة قبل أيام عن منح جائزة الإعلام الثقافي للشاعر والصحفي سعد الحميدين، بدا المشهد أشبه بوفاء جماعي لرجلٍ عاش نصف قرن وأكثر بين الحرف والصفحة. لم تكن الجائزة مجرد تتويجٍ شخصي، بل هي اعتراف بمسيرة تمثّل حجر أساس في بناء الصحافة الثقافية الحديثة في المملكة، وتجسيد لريادة شعرية لم تكتفِ بالتأمل الجمالي، بل فتحت دروب الحداثة وصاغت ذائقة جديدة. هذه اللحظة ليست وليدة الصدفة، بل هي حصيلة تاريخ طويل، تتشابك فيه التجربة الشعرية مع الريادة الصحفية، ويتجلى فيه وعي مبكر بالثقافة كقوة ناعمة، قادرة على مواجهة التقليد والتشدد، وصناعة حضورٍ متجدد يتسع للأجيال المتعاقبة. البدايات: طفلٌ مفتون بالحرف في طفولته، كان مفتونًا بالقراءة حدّ الهوس، يقتطع من مصروفه الضئيل ليشتري صحيفة أو مجلة، ويُبحر في عوالمها كأنها كنزٌ مكتوب، تلك البداية الصغيرة صنعت شخصية قارئ لا يهدأ، وكاتبٍ يراكم خبرته من الحرف ذاته، حتى غدا الشعر خياره الأول والأثير. لم تكن الظروف سهلة، ولم يكن المناخ الثقافي مهيأً لتجارب جديدة، لكن الإصرار على الإمساك بجذع اللغة، وملاحقة طلاسمها، جعلته منذ بداياته واثقًا أن الكلمة هي طريقه إلى الحضور، ومن هذا الشغف تشكّلت ملامح شاعرٍ سيترك بصمته الأولى في ديوانه المبكر «رسوم على الحائط». الشعر: الحداثة تولد في قلب الجزيرة حين أصدر ديوانه الأول، كان المشهد الشعري في المملكة والخليج محكوماً بتقاليد صارمة، فجاءت قصائد الحميدين كفتحٍ مبكر، ينقل القصيدة من حدود العمود إلى فضاء الحداثة، لم يكن الشعر الحديث حكراً على بيروت أو بغداد أو القاهرة بعد صدور هذا الديوان؛ فقد صار للسعودية والخليج صوتٌ في التجربة الحداثية. تتابعت دواوينه اللاحقة مثل: «خيمة أنت والخيوط أنا» و«تنتحر النقوش» و«أيورق الندم؟» و«وعلى الماء بصمة»، لتشكل معاً مشهداً متكاملاً من التجريب والبحث الجمالي، لم يكن شاعراً يكتب فقط، بل كان يعيد تعريف القصيدة الحديثة محليًا، ويمنحها شرعية الوجود عبر إنتاج متماسك وواعٍ. المقالة والنقد: توسيع الدائرة لم يقف الحميدين عند حدود الشعر، كان مدركاً أن الكلمة الثقافية تحتاج إلى منصات أخرى، فكتب المقالة بوعي منفتح على ثقافة الآخر، وأغنى النقد بقراءاته وتحليلاته، وفي وقتٍ كانت الساحة الثقافية المحلية في حاجة ماسة إلى من يتجرأ على تفكيك النصوص والظواهر، جاء قلمه رشيقاً، لا يهاب المغامرة، ولا يتردد في إثراء أرض النقد المجدبة. لذلك لا يكاد يخلو كتاب أو دراسة أو مقالة تناولت الشعر السعودي الحديث من إشارة إلى تجربته، بوصفها تجسيدًا حيًا للشعر الحداثي في الخليج، وبوصفه واحدًا من الأصوات المؤسسة لهذا التيار. الصحافة الثقافية: صناعة الذائقة المساحة الأوسع في تجربة سعد الحميدين جاءت من عمله الصحفي، على امتداد عقود في #اليمامة_ و #الرياض_، تولّى مسؤولية التحرير الثقافي، وقاد الملاحق وصفحات الثقافة لتكون أكثر من مجرد مساحات للنشر، بل مدارس لصناعة الذائقة العامة. تحولت الصفحات الثقافية في عهده إلى منصات للتنوير، مفتوحة للأسماء الشابة، ومرحّبة بالنصوص الجديدة، حتى تلك التي أثارت الجدل، لم يكن يخشى النقد، ولا يصدّ الأبواب في وجه المختلف، كان يدرك أن الصحافة الثقافية ليست انعكاساً للمشهد، بل قوة قادرة على توجيهه وصناعته. ومن هذه المنصات، عَبَر كثير من الأدباء والشعراء والكتاب الذين أصبحوا اليوم علامات بارزة في المشهد الثقافي السعودي والعربي، لقد كانت الصحافة في نظره أكثر من مهنة، كانت مشروعًا ثقافيًا، ومؤسسة تصنع المعنى وتدير الحوار. مبادرات نوعية إلى جانب الإدارة اليومية، كان الحميدين شريكاً في مبادرات ثقافية نوعية، منها #كتابالرياض و#كتابفي_جريدة، لم تكن هذه المشاريع مجرد أنشطة عابرة، بل جسورًا عملية لتوسيع دوائر القراءة، وإيصال الكتاب إلى أوسع شريحة ممكنة من المجتمع. هذه المبادرات تؤكد أن تجربته الصحفية لم تكن محصورة في تحرير الصفحات، بل تجاوزت ذلك إلى ابتكار مشروعات مؤسسية تسعى لتوسيع الأثر الثقافي، وإيجاد مساحات جديدة للتفاعل مع القارئ. رعاية الأجيال الجديدة ميزة أخرى ميّزت الحميدين، هي قدرته على اكتشاف المواهب ورعايتها، لم يكن يكتفي بنشر نصوص الكبار، بل كان يفتّش عن الأسماء الجديدة، ويمنحها فرصتها الأولى، كثيرون يعترفون أن بداياتهم الحقيقية انطلقت من صفحات أشرف عليها، وأنه كان اليد الدافئة التي ساعدت النصوص الوليدة على أن ترى النور. كان يؤمن أن الصحافة الثقافية ليست أرشيفًا لتثبيت الأسماء، بل حاضنة للأجيال الجديدة، ومن هنا جاء أثره البعيد المدى في تكوين أجيال من الكتّاب والشعراء. شغفٌ لا يشيخ على الرغم من العقود التي قضاها في العمل، ظلّ سعد الحميدين قارئًا نهمًا، يلاحق الإصدارات، ويبحث عن الكتب النادرة، ويحرص على مواكبة كل جديد، لم تكن القراءة عنده متعة عابرة، بل حاجة وجودية، مكتبته الضخمة وحرصه الدائم على تتبّع الجديد جعلاه نموذجًا للقارئ الذي يصنع كاتبًا متجددًا. هذا الانهمام بالقراءة منح قلمه مرونة وقدرة على مواكبة الأجيال الجديدة، دون أن يتخلى عن أصالته وتجربته الخاصة. تجربة ممتدة في الزمن منذ سبعينات القرن الماضي وحتى اليوم، ظلّ اسم سعد الحميدين حاضرًا في المشهد الشعري والصحفي، تجربته لا تختصر في ديوان أو مقال، بل في مشروع ثقافي ممتد، قائم على الإيمان بأن الكلمة قوة قادرة على فتح النوافذ وتغيير الوعي. لقد أسهم في مرحلة حساسة، حين كانت الثقافة تواجه محاولات الانغلاق، فكان وجوده في الصفحات الثقافية بمثابة جدار منيع يحمي حرية الكلمة وحق الاختلاف. التتويج: تكريم للثقافة السعودية جاء تتويجه بجائزة الإعلام الثقافي كاعتراف رسمي بمكانته، لكن الأهم أنه تكريم لمرحلة كاملة من تاريخ الثقافة السعودية، لقد جسدت تجربته كيف يمكن للشعر أن يفتح دروبًا، وللصحافة أن تصنع وعيًا، وللإعلام الثقافي أن يكون رافدًا من روافد القوة الناعمة. ليس من المبالغة القول إن اسمه أصبح جزءًا من تاريخ الحداثة الشعرية في المملكة، ومن ذاكرة الصحافة الثقافية العربية. اسمٌ سيبقى سعد الحميدين ليس مجرد شاعرٍ أصدر دواوين مؤثرة، ولا مجرد صحفي تولّى إدارة صفحات ثقافية؛ إنه مدرسة قائمة بذاتها، أسست لوعي مختلف، واحتضنت أجيالًا، وأعطت للثقافة السعودية وجهًا مضيئًا. التكريم الذي حظي به اليوم هو احتفاء بذاكرة ثقافية ممتدة، ودرس للأجيال بأن الكلمة حين تُكتب بصدق وتُمارس بوعي، تتحول إلى أثرٍ باقٍ، سيظل اسمه محفورًا في الذاكرة بوصفه رائدًا للشعر الحديث، وصانعًا للإعلام الثقافي، ورمزًا من رموز التجربة السعودية التي تجاوزت حدودها لتسهم في الثقافة العربية على اتساعها. محمد بن عبدالله الحسيني