يشكل الاقتصاد الأزرق اليوم أحد أبرز المفاهيم الاقتصادية الحديثة التي تجسّد تكامل التنمية مع الاستدامة، حيث يقوم على الاستخدام الأمثل للموارد البحرية والساحلية بما يعزز النمو الاقتصادي ويحمي النظم البيئية، وتشير تقارير دولية إلى أن القيمة السنوية للاقتصاد الأزرق تتجاوز 2.5 تريليون دولار، أي ما يقارب 5% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، كما أن التجارة المرتبطة بالبحر تجاوزت قيمتها في عام 2023 نحو 2.2 تريليون دولار بين سلع وخدمات، ويعتمد على الثروة السمكية أكثر من 600 مليون إنسان حول العالم. وليس البُعد الاقتصادي وحده ما يجعل الاقتصاد الأزرق محط الأنظار، بل يتجاوزه إلى بُعد أكثر حيوية يرتبط بالأمن المائي. فالمملكة العربية السعودية تعد من أكبر الدول المنتجة للمياه المحلاة في العالم، إذ تؤمن أكثر من 60% من احتياجاتها المائية من البحر، في وقت تسهم فيه هذه الاستثمارات في حماية المخزون الجوفي من الاستنزاف وضمان استدامته كمورد استراتيجي. هذا الدور يجعل من البحر مصدرًا للحياة اليومية، لا يقل أهمية عن كونه محركًا للتجارة والابتكار. وتأتي مكانة المملكة الاستراتيجية من موقعها الجغرافي الفريد على البحر الأحمر والخليج العربي، حيث تمتد سواحلها لما يزيد على 3,800 كيلومترًا وتضم العديد من الجزر البحرية. هذا الامتداد جعل من المملكة لاعبًا محوريًا في طرق التجارة البحرية الدولية، كما عزز فرصها في أن تتحول إلى مركز عالمي للاقتصاد الأزرق. ومع إطلاق رؤية 2030، استثمرت المملكة أكثر من 3.2 تريليون دولار في مشاريع تنموية تتقاطع مع هذا القطاع، وسط توقعات بأن يضيف الاقتصاد الأزرق ما قيمته 22 مليار ريال إلى الناتج المحلي ويوفر 100 ألف فرصة عمل بحلول 2030. لكن الاستفادة من هذه الفرص ليست مسؤولية الدولة وحدها، بل هي مهمة مشتركة بين القطاعات المختلفة ومنها مؤسسات المجتمع المدني. فالمنظمات الاقتصادية مطالبة بتبني استثمارات مسؤولة في مجالات مثل السياحة البحرية، الطاقة المتجددة، والصيد المستدام، بما يحقق عوائد اقتصادية ويحافظ على البيئة البحرية. كما أن المجتمع، بوعيه وممارساته اليومية، يُعد شريكًا في الحفاظ على المكتسبات، سواء من خلال المشاركة في المبادرات البيئية أو دعم المنتجات والخدمات التي تراعي معايير الاستدامة. إلى جانب ذلك، يلعب البحث العلمي والابتكار دورًا أساسيًا في دفع عجلة الاقتصاد الأزرق نحو المستقبل. فالمراكز البحثية والجامعات الوطنية مطالبة بالمزيد من الأبحاث النوعية الرائدة في مجالات تتعلق بالطاقة البحرية، تقنيات التحلية، والزراعة المائية، فضلًا عن ابتكارات متقدمة لمراقبة صحة النظم البحرية. هذه الجهود البحثية لا تقتصر على تعزيز المعرفة، بل تمتد إلى خلق تطبيقات عملية قادرة على تحويل البحر إلى مصدر متجدد للفرص. ومن خلال الجمع بين الاستثمار المسؤول، مشاركة المجتمع، والبحث العلمي والابتكار، تستطيع المملكة أن تجعل من الاقتصاد الأزرق ركيزة أساسية في تحقيق أهدافها الاستراتيجية. فالرهان ليس فقط على تنويع مصادر الدخل وتقليل الاعتماد على النفط، بل على بناء نموذج متكامل يضمن الأمن المائي والغذائي، يحمي البيئة البحرية، ويوفر وظائف نوعية للشباب. إنها معادلة تنموية تعكس إدراكًا عميقًا بأن البحر ليس مجرد محيط يحيط بالمملكة، بل هو مورد استراتيجي يعانق حاضرها ويصوغ مستقبلها. *مستشار الاتصال المؤسسي خبير الاستدامة والمسؤولية الاجتماعية ayedhaa @x