لم يكن التميز الوظيفي يومًا مجرد حصاد لمهاراتٍ جافةٍ تُكتسب، أو خطواتٍ آليةٍ تُتبع، إنه أبعد من ذلك وأعمق، إنه زهرة نادرة لا تُثمر إلا في تربة القلب، وتُروى بماء الشغف، وتتلقى دفئها من شمس الحب. وكما قال الرسول صلى الله عليه وسلم (إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه)، فالإتقان هو أول ثمار هذه الشجرة المباركة. فما هو هذا الحب الذي يصنع المعجزات في مسيرة الإنسان المهنية؟ إنه ليس ذلك الشعور العاطفي المُقتصر على العلاقات الشخصية فحسب، بل هو حالةٌ أعمق وأشمل. هو حبٌ للذاتِ تُكرّمها بالسعي نحو الأفضل، وحبٌ للعملِ تُجسده إتقانًا وإبداعًا، وحبٌ للفريقِ تُحييه تعاونًا وتقديرًا، وحبٌ للقيمةِ التي تُضاف إلى العالم من خلال المهمة التي تؤديها. وهذا مصداق قوله تعالى: *وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ * [التوبة: 105]. فالحب هنا يكون في مراقبة الله وإرضاءه من خلال العمل الصالح. إن الموظف الذي يعمل بقلبٍ مُحبٍ، يختلف عن ذلك الذي يعمل بيدٍ فقط. الأول يرى في التحدي فرصةً للتألق، وفي الخطأ درسًا للتعلم، وفي الروتين مساحةً للإبداع. إنه لا ينتظر الأمر لينفذه، بل يبادر بالحل قبل أن تُطلب منه المساعدة. إنه لا يعمل ليكسب قوت يومه فقط، بل ليشبع روحه ويحقق ذاته. همته لا تنبع من رقابة المدير، بل من رقابة ضميره وحبه للجودة. وهذا هو معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله طيب لا يقبل إلا طيبًا) فالحب الطيب للعمل ينتج عملاً طيبًا مقبولاً. أما أثره، فإن هذا الحب يصنع المعجزات. إنه يطلق طاقات العقل الكامنة، فيتفجر إبداعًا، ويُشرع أبوابًا للحلول لم تكن في الحسبان. إنه يمحو من ذاكرة الموظف كلمة "المستحيل"، ويستبدلها ب "كيف يمكن؟". وهو الذي يجعل الساعات الطويلة من العمل الشاق تمر وكأنها لحظات من المتعة والانغماس، فيندثر الإحساس بالإرهاق ويندلع الشعلة الحماسية. وقد قال الإمام الشافعي: "بقدر الكدّ تكتسب المعالي". فالحب يجعل الكدّ عبادةً والسعي تفانياً. ولعل أجمل ما في هذه المعادلة، أن الحب في العمل مُعدٍ كالضحك. فحين يكون القائد محبًا لفريقه، عادلاً في تعامله، مُقدرًا لجهودهم، مُهتمًا بنموهم، فإنه يخلق بيئةً يُصبح فيها التميز هو اللغة السائدة. وحين يحب الزملاء بعضهم بعضًا، تزول الحساسيات التافهة، وتذوب الحدود المصطنعة، ويولد تعاونٌ نادرٌ يتحول إلى إنجازٍ استثنائي. وهذا مصداق قوله صلى الله عليه وسلم: (مَثَلُ المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم، مَثَلُ الجسد؛ إذا اشتكى منه عضو، تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى). فالحب هو اللبنة الأولى لبناء الفريق المتعاون المتميز. وختامًا، فإن الحب في العمل هو صدقة جارية على صاحبها، وهو سرّ من أسرار التميز التي اختصّ الله بها من أحب عمله وأحسن فيه. وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله كتب الإحسان على كل شيء) فليكن حبك لعملِك إحسانًا، وتميزك فيه شكرًا، ونجاحك فيه صدقةً تقدمها للعالم.