الذي يتأمل مسيرة النقد الأدبي يلحظ مروره بأطوار عديدة، تشكلّت من خلالها - لدى الثقافة العربية - حصيلة هائلة من الممارسات النقدية التي جعلت من النقد الأدبي نقداً أكثر ثباتاً ورسوخاً، بل أكثر تطوراً وتجدداً؛ إذ لم يقف النقد الأدبي في دائرة منغلقة، أو مجال ضيق، وإنما سمح لنفسه بأن يتمدد في نطاق أوسع، فانتقل بذلك من الذوقية إلى الانطباعية، ثم إلى المعيارية، وصولاً إلى المنهجية، ولم يتخلَ في جميع أحواله عن معياره الأول (الحكم بالجودة والرداءة)، فكان في بادئ الأمر (ذوقيّاً) يقوم على الانطباع الأول، ثم أصبح (معيارياً) يقوم على التسبيب والتسويغ، وطرح الآراء، وتفنيدها، ثم صار النقد (علميّاً) يعتمد على التحليل، والموازنة، والمقابلة، والتمييز. غير أن النقد الأدبي فيما أبعد، وتحديداً في زمننا المعاصر، أصبح (منهجاً)، بمعنى أنه بات طريقاً تَشُقُّ من خلاله الدراسات النقدية طريقها، سواء في الجانب النظري، أو التطبيقي، ومن هنا أخذ النقد يتطور في هذه المرحلة تطوراً ملموساً، امتزج فيه العلمي بالمنهجي، وهذا أمثاله أكثر من أن تحصى، حيث نجده في كثير من البحوث، والدراسات، والرسائل العلمية التي تدرس الأدب وفقاً للمناهج الداخلية، أو الخارجية، أو المناهج السياقية، أو النسقية، أو ما بعد السياقية والنسقية إذا ساغ لنا الوصف. ويمكن أن نجد في النقد (الثقافي) مرحلة أخرى مغايرة، وإن تناوشت هذا الوصف آراءٌ متباينة، غير أننا لا بد أن نعدها مرحلة أخرى من مراحل تطور النقد، ولن تقول عنها: إنها مرحلة عليا، أو دنيا، أو أدبية، أو غير أدبية، فذلك مما لا يمكن تفصيله هنا، لكنها على أقل تقدير درجة من درجات النقد الكثيرة، أو طور مختلف من أطواره التي وصل إليها، وما زال التطبيق فيه مستمراً في كثير من الدراسات، والبحوث المعاصرة. وربما يصح أن نعدّ النقد الأدبي (البيني) مظهراً آخرَ من تلك المظاهر، ونعني به ذلك النقد الأدبي الذي ينبع من جانب علمي مختلف، ومن حقل معرفي مغاير، ومن ميدان تخصصي مباين، كأن يفيد النقد الأدبي من العلوم الإنسانية، أو التربوية، أو العلمية، أو التطبيقية، وقد رأينا أمارات تلك البينية واضحة في استفادة النقد الأدبي من محيطه القريب، أو ما يمكن أن نطلق عليه: (العلوم المحاذية)، كعلم اللغة، والنحو، والصرف، والعروض، والبلاغة، واللسانيات المعاصرة. وقد تكون استفادته من علوم إنسانية قريبة الصلة، كالتاريخ، والجغرافيا، وعلم الاجتماع، وعلم النفس، والمنطق، وما أشبه ذلك. لكن المفارقة تكمن في تحاقل النقد الأدبي مع العلوم التطبيقية كالطب، والهندسة، والجيولوجيا، والحاسوب، والتكنولوجيا، والرياضيات، والأحياء، والكيمياء، والفيزياء، وما شابه ذلك، فمن ههنا تنبع أهمية النقد الأدبي في تواشجه مع هذه العلوم، وتحاقله مع بعضها، أو أحدها، وهو ما يمكن تقديمه، واستقراؤه، والخروج بأفكار جديدة حوله، قد يكون لها فضل التعريف، والتذكير، والتأسيس على الأقل. وقد أشرتُ سابقاً في غير موضع إلى بينية النقد الأدبي مع تخصصات علمية، فضربتُ بذلك مثالاً بما ورد عند محمد بن حيدر البغدادي (517ه) في كتابه (قانون البلاغة) حيث ربط بعض آرائه النقدية بالصناعة، فقال مثلاً: "وينبغي أن تعلم أن البلاغة لما كانت إحدى الصناعات، كان لها ما لكل صناعة من المبادئ، والموضوعات، والأدوات"، وقد استرسل في تلك البينية، فقارن البلاغة بغيرها من العلوم الطبيعية، والتطبيقية, كالهندسة، والطب، وغيرها، ويمكن الرجوع إلى نظراته البينية هذه في كتابه بشكل موسع.