حينما تشتد الأزمات في المنطقة، تبرز قيمة الدول القادرة على الإمساك بخيوط التوازن بين متطلبات الأمن ومتطلبات التنمية. والسعودية، بما تملكه من ثقل سياسي واقتصادي، تنجح اليوم أمام اختبار استراتيجي يعكس قدرتها على تحويل التحديات إلى فرص، وصياغة معادلة دقيقة قوامها حماية الأمن الوطني ومواصلة النمو الذي تقوده "رؤية 2030". لقد أعاد التصعيد الإيراني–الإسرائيلي الأخير المنطقة إلى أجواء مشحونة بالقلق وعدم اليقين، فالمملكة تتحرك دبلوماسيًا لاحتواء أي تهديد، وتعمل مع شركائها الدوليين على خفض التصعيد بما يضمن سلاسل الإمداد الدولية. هذه السياسة تعكس إدراكًا أن الاقتصاد المزدهر يحتاج إلى بيئة مستقرة. ورغم التوترات، يواصل الاقتصاد السعودي تسجيل أداء قوي، فقد أظهرت بيانات الهيئة العامة للإحصاء نمو الناتج المحلي الحقيقي بنسبة 3.4% في الربع الأول من عام 2025، مدعومًا بارتفاع الأنشطة غير النفطية بنسبة 4.9%، مقابل تراجع طفيف في القطاع النفطي لا يتجاوز 0.5%. هذه الأرقام تؤكد نجاح سياسة التنويع الاقتصادي، وتمنح الاقتصاد قدرة أكبر على امتصاص الصدمات. وعلى صعيد القطاع الخاص، ارتفع مؤشر مديري المشتريات إلى 57.2 نقطة في يونيو قبل أن يستقر عند 56.3 في يوليو، وهو مستوى مريح أعلى من حد التوسع البالغ 50 نقطة، ما يعكس استمرار الطلب المحلي وتوسع التوظيف. هذه المؤشرات دفعت صندوق النقد الدولي إلى رفع توقعاته لنمو الاقتصاد السعودي لعام 2025 إلى 3.6%، في دلالة واضحة على صلابة الأساس الذي تقوم عليه الإصلاحات الاقتصادية. وفي مجال الطاقة، اختارت الرياض السير في مسارين متوازيين. الأول هو إدارة سوق النفط عبر «أوبك+» بما يضمن التوازن بين الاستقرار والمرونة، حيث بدأ تنفيذ تفكيك تدريجي لجزء من التخفيضات الطوعية مع المحافظة على انضباط السوق حتى نهاية العام، وهو ما يتيح للمملكة مرونة في التعامل مع أي تقلبات مفاجئة. أما المسار الثاني فيتمثل في تسريع التحول الأخضر، إذ وصل مشروع نيوم للهيدروجين إلى مرحلة متقدمة بلغت فيها نسبة الإنجاز نحو 80%، مع قدرة إنتاجية مستقبلية تصل إلى 600 طن يوميًا، وتمويل بلغ 8.4 مليارات دولار، إلى جانب عقد شراء يمتد لثلاثة عقود. هذه الخطوات تجعل المملكة رائدة في أسواق الطاقة المستقبلية. إن توازن المملكة لا يقتصر على معادلة الأمن والطاقة، بل يمتد إلى الدبلوماسية الاقتصادية. فهي توسع شراكاتها مع الصين وآسيا، وتُبقي في الوقت ذاته على علاقات متينة مع الولاياتالمتحدة وأوروبا، ما يمنحها عمقًا استراتيجيًا. كما أن تطوير أدوات التمويل الأخضر عبر إصدار صكوك وسندات موجهة إلى مشروعات الطاقة المتجددة سيعزز قدرة الاقتصاد على جذب الاستثمارات الدولية، في حين أن مواصلة الاستثمار في الأمن الغذائي والمائي، سواء عبر الزراعة الخارجية أو التقنيات الحديثة داخل المملكة، سيزيد من حصانة الاقتصاد. ورغم أن الأزمات تفرض ضغوطًا آنية، فإنها في الوقت نفسه تفتح آفاقا جديدة. فارتفاع أسعار النفط يتيح للمملكة فوائض مالية يمكن استثمارها في تسريع برامج التنويع، والتحولات الجيوسياسية تجعل العالم أكثر حاجة إلى شريك مستقر وموثوق مثل السعودية. ومن هنا فإن التحديات لا تقف حجر عثرة أمام الرياض، بل قد تتحول إلى رافعة إضافية لمكانتها كقوة اقتصادية صاعدة. السعودية تمسك بخيوط المعادلة الدقيقة: أمن صلب يبدد المخاطر، ونمو مرن يعزز المستقبل. تقدم الرياض نموذجًا فريدًا لكيف يمكن لدولة أن تجمع بين حماية أمنها وترسيخ مكانتها كقوة اقتصادية، لا تكتفي برد الفعل على الأزمات، بل تصوغ من قلبها مسارًا جديدًا للتنمية والاستقرار. وبهذا، ترسم الرياض معادلة تجعل من الاستقرار رافعة للنمو، ومن النمو ضمانة للاستقرار.