ليست الأنوميا مجرّد مصطلح سوسيولوجي صاغه إميل دوركايم لوصف انعدام المعيار، بل هي حالةٌ وجودية معاصرة تعصف بالإنسان، إنه فراغٌ روحي هائل تحت قصف الفائض المادي، وضياعٌ في متاهة الخيارات اللامتناهية؛ حيث تتحطم البوصلة الأخلاقية، وتتنامى ثقافة الفراغ في زمن التشظي. وليست الأنوميا كلمة مألوفة في قاموسنا الثقافي، لكنّها تحضر كظلٍّ ثقيل في تفاصيل حياة بعضنا اليومية. إذ تصف الحالة التي تنهار فيها القواعد والقيم، فيغدو الفرد كمن يمشي في فضاء. إنها ليست فوضى سلوك فقط، بل فوضى معنى، حيث لا يعود الإنسان يعرف لأي شيءٍ يُنصت، ولا لأي غايةٍ يتجه. يقول دوركايم: «إنّ الأنوميا هي ذلك الشرخ الذي يحدث في الضمير الجمعي عندما تفقد المعايير الاجتماعية سيطرتها على الأفراد». وأقول: إنها حالة لم تكن مألوفة من انهيار السرديات القيمية الكبرى في المجتمعات. فدوركايم يرى أنّ القواعد حين لا تعود محددة، يفقد الأفراد القدرة على معرفة ما يُمكن أن يتوقعوه، وما يجب أن يفعلوه. وهنا لا يكون الخطر خارجيًا فحسب، بل من الداخل، إذ يُصاب المجتمع بحالة انعدام للوزن الثقافي، فتتساوى الخيارات وتنهار الأولويات. وإذا ما دقّقنا في الأدب نجد أنّ الأنوميا تُومض كحالة اغتراب وجودي. إذ يكفي أن نتأمل قصائد أدونيس أو السيّاب لنرى الفرد وهو يصطدم بمدنٍ بلا روح، وقيمٍ لا تمنحه سوى الغربة. وفي مسرحية بيكيت في انتظار غودو، تبدو الأنوميا هي الغائب الأكبر، فلا قواعد ولا معنى، بل مجرّد انتظار يفضح الفراغ. وفي الرواية العربية الحديثة من نجيب محفوظ إلى الطيب صالح.. تتكرّر ذات الصورة لذات الإنسان. إنها مرضٌ ثقافي ينهش جسد المجتمع. فحين تتفكك المرجعية الأخلاقية يُصبح كل شيء قابلًا للتبرير، كالكذب، والخيانة، بل وحتى العنف؛ حيث يتجلّى ذلك في اللامبالاة المتزايدة، وفي انقطاع الأجيال عن سرديات كبرى تمنح لحياتهم معنى. إنها لعنة أبديّة يُمكن النظر إليها كحالة جمعية يُمارس فيها الناس حياتهم دون يقين عميق. فهي لا تُمثّل غيابًا للقوانين بالمعنى الحرفي، بل غياب القدرة على منح القوانين معنىً أخلاقيًا. وإذا كانت المجتمعات الغربية قد وصفت الأنوميا مع التحوّلات الصناعية والتكنولوجية، فإنّ مجتمعاتنا العربية تعيشها في صور أكثر التباسًا بين ماضٍ يضمحل ببطء، وحاضر لا يُقدم كلّ البدائل الملائمة. وهنا تتضاعف الغربة، لأنّ الفرد يعيش ازدواجية بين قيم تقليدية لا تكفي لتنظيم حياته الحديثة، وحداثة مستوردة غير قابلة للتجذّر في نسيجه الثقافي. لم تكن الأنوميا يومًا قدرًا محتومًا، بل نداء لإعادة بناء المعنى. فإذا كان دوركايم قد رأى فيها مظهرًا لانهيار القيم مع الحداثة، فإنّ السؤال اليوم: كيف يُمكننا أن نستعيد البوصلة دون أن نتردّى إلى الماضي أو ننغمس في عبث الحاضر؟ وبهذا المعنى فإنّ الأنوميا لا تغدو مجرّد مفهوم سوسيولوجي، بل يتحوّل الفراغ من حالة عابرة إلى ثقافة مهيمنة. يقول بيكيت على لسان شخصياته المعلَّقة في العبث: «لا شيء أكثر واقعية من العدم». أليست وسائل التواصل الاجتماعي بفيضها الساحر من الصور والآراء تُعيد إنتاج العدم في قالبٍ مبهرج؟ فنملأ الفراغ بضوضاء رقمية، ونُطارد الإعجابات بديلاً وهميًّا عن القيمة، ونستهلك المحتوى مُسكّنًا للقلق. لقد تحوَّل الفراغ الداخلي إلى سلعةٍ تُسوَّق، وصرنا نرتدي أزياء الهُوية كأقنعة مؤقتة في كرنفالٍ زائف. بل وحتى اللغة نفسها قد تُصاب بالأنوميا عبر كلماتٍ تفقد دلالاتها العميقة، وتتحوّل إلى قشور جوفاء. فالحب يُختزل في إيموجي، والنصر في هاشتاغ. يقول فوكو: «المعرفة سلطة». فماذا حين تتحوّل المعرفة إلى شظايا؟ وحين تصبح سُلطتها مشتتةً بين أقطاب لا تُحصى؟ هنا فقط يُولد ذلك الشعور المأساوي بالعجز المتمثل في القدرة على قول كلّ شيء مع عدم القُدرة على تغيير أي شيء. إذ الكلام يفيض والفعل يتضاءل، والفجوة بينهما تصير هُوَّة سحيقة من الفراغ. ولكن، أليس في هذا الركام بذارٌ مُمكنة للأخلاق؟ يتحدّث إيريك فروم عن الحرية الحقيقية التي تنطلق من إعادة الاتصال بالذات وبالعالم بشكل أصيل. فربما كانت الأنوميا مرحلة مخاضٍ قاسية تسبق ولادة معنى جديد.. معنى لا يُستورد، بل يُنسج بخيوط الوعي الفردي، معنى ينبثق من القاع في فضاء التشظي لبناء جسورٍ من القيم التي تتناسب وقيمنا الوطنية الأصيلة. إنّ الأنوميا ليست النهاية، بل إنها تُعرِّي الوهم القائل بأن رفاه المادة وحده يكفي لملء الوجود الإنساني. وفي صميمها قد نجد فرصة أخيرة لطرح السؤال القديم الجديد: كيف نبني عالمًا لا ينفي الفراغ، بل يحوّله إلى مساحة ذات قيمة للتأمل والإبداع؟