لم تكن زيارتي الأولى للمتحف زيارة عابرة، لم أكن أعلم تماماً ما أبحث عنه، لكني شعرت بمساحات المتحف الهادئة، كانت لحظة اتصال بمعروضات القاعة حركت مشاعري، كأنني دخلت في حوار صامت مع كل ما هو حولي جعل من ذلك الصمت قصة ومن الفراغ حضوراً. خلال زيارتي كانت اللحظة التي أدركت فيها معنى عميقاً مختلفاً عن ذاتي. في سكون المعروضات سمعت قصة تاريخية، وفي طريقة العرض لاحظت ما يشبه الرواية المتسلسلة تُدرَك بالتأمّل والربط والتحليل. لقد كان حواراّ تأملياً وفلسفياً وفنياً مع نفسي. لم أكن حينها متخصصة ولم أمتلك أدوات التأريخ أو أساليب التحليل الفني أو الناقد، اكتفيت بالإصغاء بحواسي كلها لعالم لا يكشف أسراره إلا لمن يمنحه الصبر والانتباه؛ ومنذ تلك اللحظة تغير عالمي. شغفي بالفنون كان رفيقي الدائم، حملته معي منذ نعومة أظفاري حتى حصلت على درجة البكالوريوس في الفنون من جامعة الأميرة نورة بنت عبدالرحمن، ثم درجة الماجستير في الفنون الحرة فنون الإستوديو من جامعة مدينة أوكلاهوما في الولاياتالمتحدةالأمريكية، ودرجة الدكتوراه في فلسفة الفنون من جامعة شمال تكساس في الولاياتالمتحدةالأمريكية وكان هذا الشغف هو الباب الذي فتح لي الدخول إلى عالم المتاحف، عالمٌ يأسر الفكر والروح معاً، فحصلت أيضاً على درجة الدراسات العليا في المتاحف، ورخصة دولية للعمل فيه من نفس الجامعة. لقد كانت زياراتي للمتاحف بين عامي 2015-2018 في منطقتي دالاس وفورت وورث بمثابة تحولات في المفاهيم والأساليب المتعلقة بالفنون من منظور فلسفي وفهم سياقاتها الثقافية التي أدت إلى إنتاج هذه الفنون، وإدراك أساليب الحوار المختلفة عن الأعمال الفنية والقطع الأثرية من خلال المعروضات في المتحف مما دفعني إلى التساؤل: لماذا نفتقد في بلادنا متاحف متخصصة تفتح للزائر أبواب الفن والحوار برقي عن الثقافة يوازي ما نراه في الخارج؟ لماذا لا يحظى الفن لدينا بالتقدير الذي يستحقه؟ ولماذا يظل النظر إلى الفنانين محصوراً ومشوشاً رغم غنى تراثنا المادي وغير المادي؟ خلال رحلتي الأكاديمية لدراسة الماجستير 2006-2009 ثم مرحلة الدكتوراه 2013-2019 التقيت بالكثير من الطلاب السعوديين المبتعثين ولاحظت أن أغلبهم لا يعرف غنى التنوع الثقافي لبلادنا. لم يتوقف الأمر عند اللهجات فقط، بل شمل الأفكار والأزياء والمأكولات وحتى تنوع الطبيعة والمناخ. كان كل واحد منهم يحصر الهوية السعودية في بيئته الخاصة ولهجته وعاداته، وكأنّ الصورة الكبرى غابت عنهم. في تلك اللحظة أدركت ضرورة وجود ودور المتحف كحاضن لنا جميعاً ليربطنا بذواتنا وليعيد بناء وعينا الجماعي. ومع مرور السنوات، تكشّفت أمامي صورةٌ أوسع، لقد كان هناك فجوة ثقافية حدّت من الاهتمام المؤسسي والفني -في الفترات الماضية- وقد غلب عليها أيضاً محدودية الموارد وقصور التخطيط المتخصص. لقد ظلّ تقدير الفنون محدوداً بفعل ضعف التعليم الفني والإعلامي الذي عجز عن تعريف الجمهور بأهميته مع صغر مساحات عرض الفنون وضعف قنوات التواصل مع المتلقي. لقد ظلت النظرة إلى الفنانين التشكيليين وممارسي الفنون محصورة ومشوشة نتيجة انغلاق بعض القنوات المجتمعية على الإبداع وسيطرة النظرة التقليدية التي قللت من فهم دورهم الثقافي والمجتمعي. ثم قيّض الله لهذه البلاد عرّاب رؤية جديدة، رؤية المملكة 2030 حيث أُسست عام 2018 وزارة تُعنى بالثقافة وتكون جزءاً أساسياً من تحقيق هذه الرؤية، بحيث تعمل على تعزيز الثقافة كأحد محاور التنمية المستدامة في المملكة. وتهدف إلى جعل الثقافة جزءاً من نمط حياة المجتمع، وتساهم في بناء مجتمع حيوي مزدهر من خلال دعم التراث والفنون والإبداع. لقد تحركت وزارة الثقافة منذ تأسيسها بخطوات حثيثة لدعم المشاريع الثقافية بمختلف مجالاتها، وتأسيس المتاحف والمراكز الثقافية، وتنظيم الورش ومعارض الفنون، ورفع مستوى الوعي الجماهيري مما يعمّق تقديرهم للنتاج الفني المحلي، مع دعم المبادرات التي تَمنح الفنانين مساحةً للتعبير وتتيح للجمهور استقبال أعمالهم الفنية بوعي واهتمام، فتصبح خبرة الفن والجمال تجربة حية يشاركها الجميع، ويزداد حضور ومكانة ممارسي الفنون في الوجدان الثقافي السعودي. إن الرؤية الشاملة التي وضعتها المملكة لتطوير قطاع الثقافة والفنون تؤكد أن للفن دوراً محورياً في صياغة مجتمع متنوع، مبتكر، ومتفاعل، ويعكس صورة حضارية إيجابية عن المملكة على المستوى المحلي والعالمي. وبفضل هذه الجهود الملموسة في تعزيز الانتماء والوعي الثقافي بين الأفراد واستمرار دعم المبادرات الفنية، وإعادة إحياء دور المتحف ومكانته بين أفراد المجتمع السعودي؛ تغيرت النظرة للفنون وممارسيها. فما كان يُرى على أنه رفاهية أو نشاط جانبي ترفيهي أصبح الآن أساسياً لبناء هوية مجتمعية قوية معتزة بذاتها. ومرتبطة بدينها وبتاريخها وعمقها الثقافي. مما أسهم أيضاً وبشكل مباشر في إثراء الحياة الاجتماعية والاقتصادية، ليبقى المتحف والمركز الثقافي منابر لإثراء تجارب أفراد المجتمع في كل أبعادها.