خلال مرحلة دراستي الماجستير بالمعهد الدولي للتطوير الإداري (IMD)، وجَّه إلينا البروفيسور Arnaud Chevallier (أرنو شيفالييه) أستاذ الاستراتيجيات ومؤلف كتاب Strategic Thinking in Complex Problem Solving - "التفكير الاستراتيجي في حل المشاكل المعقدة" سؤالاً: ما وسائل النقل المتاحة من لندن إلى نيويورك؟، الجميع أجاب: "الجو أو البحر"، فقال الأستاذ: "لا تدع تحيُّزك لقناعاتك يستبعد الحلول قبل دراستها، ماذا عن الوسائل البرية!". لم تمضِ دقائق حتى وجدت نفسي في رحلة خيالية: كيف يمكن أن أسافر من لندن إلى نيويورك براً؟ من البديهي لا يوجد طريق أو جسر بري يعبر المحيط الأطلسي؛ فأي شخص يسمع هذه الفكرة سوف يحكم عليها بالاستحالة! فتحت تطبيق "الخرائط" على هاتفي الذكي، وبدأت أتخيل المسارات وأحسب المسافات: من لندن بالقطار إلى باريس، ثم عبر أوروبا الشرقية، وصولاً إلى روسيا، ومن هناك ربما إلى أقصى الشرق حيث اليابان أو كوريا، ثم بوسيلة بحرية نحو أمريكا الشمالية، وأخيرًا بالقطار أو السيارة حتى نيويورك. هنا لم تعد الفكرة "مستحيلة" تماماً، حيث انتقلت من كونها معقَّدة وصعبة إلى أن أصبحت قابلة للنقاش والدراسة. تجربة ذكَّرتني بأن كثيراً من الأفكار العظيمة في التاريخ كانت تُستبعد بنفس السهولة; اُخترع الهاتف والتلفزيون، وتطوَّرت أجهزة الاتصالات حتى أصبح الاتصال المرئي بين البشرية عبر القارات روتينياً، بل أن الوصول إلى القمر كان ضرباً من الجنون، وحتى الذكاء الاصطناعي الذي نراه اليوم يُبدِع في الكتابة والرسم والتحليل، وهو إلى زمنٍ قريب مجرد أوهام لباحثين. المسؤول الذي يرفض الاستماع إلى الآراء الخلاَّقة بحجة أنها غير ممكنة يُقيِّد نفسه ومنظومته في حدود ضيقة، بخلاف القائد الذي تستوعب طاولته كل فكرة، ويمنحها حقها في النقاش، فإنه يفتح أبواباً للابتكار والإبداع والتجديد. هذا الدرس لم يعد بالنسبة لي مجرد نظرية في كتاب، بل رأيته متجسداً في واقع المملكة العربية السعودية ورؤيتها الطموحة 2030. انظروا بإمعان إلى منهج القيادة لمولاي خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز، وسمو سيدي المُلهم الأمير محمد بن سلمان، فقد استطاع خلال سنوات أن يقلب قناعات كانت تبدو راسخة. كان الكثير يعتقدون أن السعودية ستظل أسيرة النفط، أو أن بعض التحولات الاجتماعية والاقتصادية مستحيلة تماماً، لكن "رؤية المملكة 2030" أثبتت أن وضع الأفكار "المستبعدة" على الطاولة، ودراستها بجدية يُمكن أن يحولها إلى مشاريع قائمة، بل واقع يُغيّر وجه الوطن نحو الأفضل؛ بالإيمان بالقدرات، واستغلال المُمكِّنات، والعمل الدؤوب. رحلتي من لندن إلى نيويورك براً لم تكن رحلة جغرافية فحسب، بل كانت رحلة فكرية، تعلَّمت من خلالها أن الاستراتيجية لا تبدأ بالحلول المنطقية والصحيحة فقط، وإنما بالقدرة على عدم إقصاء أي حل قبل أن يُمنح حقه في النقاش. وهنا يكمن جوهر القيادة: "أن ترى الممكن في قلب المستحيل، وتفتح الأبواب للأفكار بدلاً من إغلاقها". *خبير تنفيذي في إدارة المشاريع وتطوير الأعمال