عندما نلج عالم النقد الثقافي - بوصفه منهجاً نقدياً حديثاً، أو اتجاهاً نقديّاً جديداً - فإنه لا بد أن نتعرف في بادئ الأمر على مفهوم (الأنساق المضمرة)، إذ هي جمعٌ لنسقٍ. والنسق في أهم معاجم اللغة وأقدمها، كتاب العين للخليل بن أحمد الفراهيدي (170ه) يشير إلى «النَّسَق من كل شيء»، أي: «ما كان على نظام واحد عام في الأشياء. ونَسَقته، نسقاً، ونسقته، تنسيقاً، ونقول: انتَسَقَتْ هذه الأشياء بعضها إلى بعض أي تنسقت». ومن هنا نعرف أن النسق نظام واحد في جملة المعاني، والأفكار، وكل ما صحّ انتظامه، ولعل قريباً من هذا المعنى استعمال النسق في النقد الثقافي للدلالة على ما ينتظم في دائرة الخطابات بشكل عام، سواء أكانت تلك الخطابات أدبية، أم غير ذلك. وأما وصف النسق بالمضمر؛ فلأنه غير مقصود، ولا يمكن أن يشعر به المتلقي العادي، وإنما يشعر به من يطلبه، أو يتفحّصه، أو يلمسه، وذلك حينما يحاول القارئ، أو الباحث، أو الناقد أن يقبض على المعنى المتواري، أو يتحسّسه من وراء الحواجز النصية، والحُجب الخطابية. ويمكن القول: إن الناقد السعودي صاحب النظرية الأستاذ الدكتور عبدالله الغذامي في مشروعه (النقد الثقافي) بيّن مفهوم النسق المضمر بشكل معمّق، حيث أشار إلى أهم صفاته التي يعرف من خلالها، وأبرز سماته التي يُدرك بها، فهو كما يقول في كتابه (النقد الثقافي، قراءة في الأنساق الثقافية العربية): «ذو طبيعة سردية يتحرك في حبكة متقنة؛ ولذا فهو خفي ومضمر، وقادر على الاختفاء دائماً، ويستخدم أقنعة كثيرة، وأهمها - كما ذكرنا - قناع الجمالية اللغوية، وعبر البلاغة وجمالياتها تمرّ الأنساق آمنة مطمئنة، من تحت هذه المظلة الوارفة، وتعبر العقول والأزمنة، فاعلة ومؤثرة». أي أن النسق يتوارى، ولا يلحظ بشكل واضح جداً، وإنما قد يُلمح لمحاً، أو يُفهَم فهماً؛ فمن ههنا يكون مضمراً. إذن فالنسق هنا من حيث هو دلالة مضمرة، ليس مصنوعاً من قبل المؤلف، بل هو – بحسب تعبير الدكتور الغذامي - منغرس في الخطاب الذي ألفته الثقافة، واستهلكه الجمهور، ومن هنا لا بد أن يكون النص جماهيرياً، ويحظى بمقروئية عريضة، ويحقق نسبة عالية من التلقي، حتى يتضح تأثير تلك الأنساق المضمرة في الذهن الاجتماعي، والثقافي، كما أنه من الأجدى أن يكون النصُّ جميلاً، بوصف الجمالية حيلة ثقافية لتمرير تلك الأنساق، وإدامتها، وذلك لكي يكون المضمر فيها نقيضاً ومضاداً للعلني. وقد تكون تلكم السمات من أهم ما يميز النسق المضمر عن غيره من أشكال التأويل المختلفة، أو مظاهر التخمين والاحتمالات الأخرى. إن النسق المضمر ينقسم إلى نسقين: نسق ظاهر، علني، ملموس. ونسق مضمر، متوارٍ، غير محسوس. أو يمكن أن نقول: إن للنسق المضمر قراءتين: الأولى - نسقية خاصة، ذات شعور ذاتي من تلقاء الكاتب، أو المبدع. والثانية - نسقية عامة، ذات تفاعل خارجي، لا يمتلكها المرسل، وإنما يمتلكها المتلقي في تفاعله مع ذلك المرسل. وكلا النوعين يشتركان في جعل النسق يُحدِث شيئاً من (التشويه الثقافي) كما يقول الدكتور الغذامي، وهو تشويه ليس إلا لدعم النسق المضمر العام. وهنا تكمن مفارقة النسق؛ لذلك يصح أن نقول: إن النسق المضمر ما هو إلا صورة مختلفة تماماً عن الواقع الخطابي؛ فهو لا يدعو إلى اقتناعنا بغير المألوف، بل بالنظر إليه على أنه شيء مختلف، ومدهش، فمن هنا كان وصف الأنساق بالمضمرة أنسب وصف يمكن أن يطلق على تلك المعاني المتخفّية.