من العدوانِ المتهاونِ به المماطلةُ في الحقوقِ، فلا فرقَ فيه بين الحقوق الماديّة والمعنوية، فمن التعدّي تجاهلُ قدرِ ذي القدرِ كوليِّ الأمرِ، والوالدينِ، وكبارِ السنِّ، وأصحابِ العلمِ والفضلِ والشرفِ، وكذلك تجاهل الإنجازات التي يستحقُّ بها الإنسانُ المكانةَ، أو التي يستحقُّ بها الموظفُ الترقية في وظيفته، فإهدارها له مساسٌ كبيرٌ بحقِّه.. إذا بلغ الإنسانُ السّويُّ مرحلةَ التَّمييزِ أدرك الخطوط العريضة العامّةَ لحقِّ الإنسانِ في عدم العدوان عليه؛ بدليل أنه يُفرّق بين من يُسيء إليه فيشكوه، ومن يكفُّ عنه شرّه فلا يشكوه، فالوعي بقبح التَّعدّي على الآخرينَ جبلَّةٌ بشريّةٌ، ومع ذلك فللنَّفسِ الأمارةِ بالسُّوء ما لا يُحصى من الأعذار المفتعلة، والتبريرات الواهية التي تهوِّنُ على الإنسانِ أن يتطاول على أخيه، وأن يمسَّ ماله أو كرامته أو بعض حقوقه، وأن يستمرَّ في ذلك غير مبالٍ بما يصنعه، فحقيقٌ بالمسلم أن يُقاوم هذه التسويلات، وأن لا ينساق وراء تلك التبريرات، وأن لا يتخذ التهاونَ باستباحة الحقوق العامة والخاصةِ عادةً له، ومما يُعينه على مقاومةِ ذلك أن يضع نفسه موضع الآخَر، فيفكر هل يرضى لأحدٍ أن يحومَ حول إذايته، وهل يرى للمعتدي عليه عذراً شرعيّاً، أو مخرجاً عرفيّاً، أو سنداً نظاميّاً، وبالتأكيد لن يجد في الشرع والعرف والنظامِ ثغرةً تُبيح للناس أن يعتدوا على شيءٍ من حرماته، فعليه أن يعيَ أن هذا الحقَّ مكفولٌ لغيرِه، ومن عدم الإنصاف أن تنفتح عينا الإنسانِ على تلك الحقوق إذا كان هو المظلومَ، وأن يستهين بالاعتداء عليها إذا كان هو المعتدي مدعياً أن لفعله مبرراً، ولي مع الاعتداء المتهاوَن به وقفات: الأولى: الاستطالةُ في أعراض الناس بالغيبة والقدح من أشدِّ أنواع العدوان، وكثيرٌ من الناس يتهاون به، وما هو بهيّنٍ، وأخطره القذف بما يشين الشرفَ؛ ولهذا قال الله تعالى عن أهل الإفك: (إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ)، وربما غرَّ الشيطانُ المتهاونينَ بالإيذاء اللفظيِّ بأن آثاره طفيفةٌ، وأنه ليس كالمساس بالأبدانِ والأموالِ، وأن المضرورَ إذا لم تبلغه القالةُ التي اغتيب بها فكأنَّ شيئاً لم يكنْ، وهذه مصيدةٌ شيطانيّةٌ خطيرةٌ، فالأعراض غاليةٌ، وسمعةُ الإنسانِ رأسُ مالِ شرفِه، والنيلُ منها نكايةٌ بالغةٌ، حتى إن بعضهم شبّهها بالنيل من الجسد، فقال: (وَجُرْحُ اللِّسانِ كَجُرْحِ اليَدِ)، ثم إنَّ الغيبة -وإن لم تبلغ من قيلت عنه- تشوّه صورتَه في أعينِ من استمع إليها، وإذا تكرر في مسامع الآخرين أن فلاناً سيءٌ، فلا بدَّ من تأثّرهم بذلك في تعاملهم معه، ولن يخفى عليه هذا التأثّر، ثم من الذي يضمن له أن الكلمة لا تصل إلى المضرور؟ ألا يعي أن الغيبةَ هي المغذّي الرئيسُ لعدوانٍ لسانيٍّ آخر من أخطر الاعتداءات، ألا وهو النميمةُ، ولا يمكن أن يجد النَّمام غنيمةً أحظى عنده من أن يسمع فلاناً يغتاب فلاناً، ثم إن قالةَ السّوء عدوانٌ مزدوجٌ؛ فهي من جانبٍ ظلمٌ لمن قيلت فيه، وظلمٌ لمن قيلت بحضرته؛ لأنها تزرع في نفسه الشحناءَ لأخيه، وتلوّث سمعَه باللغوِ، وقد تَحمِلُهُ على أن يتخذَّ من أخيه موقفاً مرتجلاً لا أساسَ له. الثَّانية: من العدوانِ المتهاونِ به المماطلةُ في الحقوقِ، فبعض الناسِ لو سمع أن فلاناً اقتحم منازل الناس وسرق ممتلكاتهم، لعدَّه معتدياً على حقهم، بينما يتغافل عن تعدٍّ آخرَ يقع فيه، وهو مماطلةُ أهلِ الحقوقِ في حقوقهم، فلا يكادُ يُنصفُ دائناً ولا يدفع مستحَقّاً، ولا فرقَ فيه بين الحقوق الماديّة والمعنوية، فمن التعدّي تجاهلُ قدرِ ذي القدرِ كوليِّ الأمرِ، والوالدينِ، وكبارِ السنِّ، وأصحابِ العلمِ والفضلِ والشرفِ، وكذلك تجاهل الإنجازات التي يستحقُّ بها الإنسانُ المكانةَ، أو التي يستحقُّ بها الموظفُ الترقية في وظيفته، فإهدارها له مساسٌ كبيرٌ بحقِّه، والنهي عن هذه الأنواع من بخسِ الحقِّ داخلٌ في عمومِ قوله تعالى: (وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ) قال بعض أهل العلم: "هذا تعميمٌ بعد تخصيصٍ؛ لأنَّ نقصَ الحقوقِ مُطلقاً أعمُّ من النقصِ في الكيلِ والوزنِ". الثالثة: من العدوان الْمُتهاونِ به التّعدّي على أملاكِ الدولة ومقدراتها ومرافقها العامّة، وهذا التعدّي لا حدود لخطورته؛ لما يترتب عليه من المفاسد الكثيرة؛ ولأن كل فرد في هذا الوطن يطاله شيءٌ من هذا التعدّي؛ فصيانةُ المالِ العامِّ من صميم الأمن القوميِّ الذي يجب على الجميع التكاتف لحمايته؛ ولهذا كان العبث به محرماً شرعاً، ومجرّماً نظاماً، ويدخل في مفهوم الغلول الذي هو من الكبائر العظيمة، كما يدل عليه قوله تعالى: (وَمَن يَغلُل يَأتِ بِمَا غَلَّ يَومَ القِيَامَةِ)، وفي حديث أَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ رضي الله تعالى عنه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم: (وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَا يَنَالُ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْهَا شَيْئًا إِلَّا جَاءَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَحْمِلُهُ عَلَى عُنُقِهِ بَعِيرٌ لَهُ رُغَاءٌ، أَوْ بَقَرَةٌ لَهَا خُوَارٌ، أَوْ شَاةٌ تَيْعِرُ"، ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ حَتَّى رَأَيْنَا عُفْرَتَيْ إِبْطَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: «اللهُمَّ، هَلْ بَلَّغْتُ؟» مَرَّتَيْنِ)، متفق عليه.