ليلة البارحة ليست كما سبقها من ليالي الأمل والتفاؤل والرجاء، وليست مثل ما بعدها من ليالي الذكريات وتجدد الأحزان وتفاصيل الألم، هي الليلة التي لم نعُد نرجو العافية فيها لعصفورة الجنة وفراشة الحب ونسمة الخير وتغريدة الصفاء والوصل والنقاء، هي الليلة التي غاب فيها صوت لا تشك أنه من أصوت أهل الجنة، وهي التي قالت بعد أخذ جرعة من المسكن للألم الشديد الذي ينتابها في كل لحظة "يا الله براد الجنة"، وكأنها تعرف مسيرها إليها برحمة الله، هي النعمة على اسمها وفي حركاتها وسكناتها وحديثها وصمتها تشعر أنها لم تُخلق للدنيا بكثير صخبها وضجيجها لأنها تعيش الهدوء وتتحدث به وعنه وتُسكنك فيه معها، لها قبول لم يُخلق إلا لها، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، ولو حاولت استعارته منها واستنساخه في غيرها فإنك ستعجز لأنها ملكات وضعها الله فيها وخلقها لها، عشت معها سنوات من الفضل منها ومن أخواتها ووالديها وإخوانها، علاقة لها من السمو ما يشعرك بشقائق الروح فيهم وبفخر المشاعر معهم، ليالي مرضها -رحمها الله- لنا لم تكن سهلة علينا ولو كانت عليها جاوزت الأشهر الطويلة بألمها، ولم نكن نعلم عنها، وهذا جعل الحزن علينا مضاعفاً لأننا قصرنا في الدعاء لها بالشفاء والعافية ورفع الدرجات، ويوم الصلاة عليها لم يكن كأيام الصلاة على غيرها عندنا، فالحزن مختلف وأكثر قسوة، والدمع مختلف وأقسى حرارة، والمشاعر مختلفة وأكثر حميمية، اهتزاز أكتاف أخي ومعلمي ووالدي الشيخ العلم والجبل الأشم والدي ووالدها عند البكاء عليها، وصوت النحيب المؤلم والذي تشعر فيه على ألمه أنه أقصى درجات حب الوالد لفلذة كبده، ومن يلومه على ذلك في الوضع الطبيعي وكيف يلام في علاقة بلغت من السمو بين أخي وبناته لدرجة تستحق الحديث عنها والاقتداء بها، وعلى قبرها -رحمها الله- أشاهد بكاء ابني أحمد وابني خالد وهما يشاهدان بكاء قدوة والدهم وقدوتهم، ثم يشاهدان بكاء شقيقها أحمد وهو في منزلة شقيق والدهم، ويرفع ابني خالد صوته أمام الناس ويقول "ادعو الله لها بالثبات" من حبه الكبير لها، مشاعر ومواقف تتداخل أثناء مراسم الدفن وبعده وكلها تؤكد أن كريمة أخي ليست كغيرها فضلاً وصلة ووفاء، وكنت أقول لمعلمي الثاني وقدوتي وأخي خالد وأنا أستمع من بعيد لحديث زوجها الفاضل الأستاذ/ عبدالرحمن الزامل: ليته يرفع صوته وهو يحدث والدها عنها وهو الأعرف بها من الجميع، لنسمع ونتعظ ونتباشر وننقل ما يقول عنها من رقي علاقتها به وحسن تبعلها وعون له، ومعاضدة في شؤون الحياة، ودفعاً لصلة الرحم، وسمو علاقتها بوالديه في حياتهما، وبأهل بيته من إخوان وأخوات وأقارب، ويقول عنها: إنني أعجز عن وصف خصالها، ولا يعلم زوجها أن بات يوماً غير راضٍ عنها طيلة عشرتهما معاً، والكثير من الصفات الكريمة التي لم ألتقطها لبُعد المكان وتداخل الأصوات، ولكن كم كنت فخوراً بقراءة ذلك من خلال لغة الجسد وتعابير الوجه وقسماته والرضا التام من زوجها عنها، وهذا من عاجل بُشرى المؤمن للغالية نعمة رحمة الله عليها رحمة الأبرار، وحديث زوجها الممتن لها عن علاقتها بربها ودوام صيامها الأيام الفاضلة شهرياً، وكريم برها بوالدها ووالدتها وحسن تربيتها لذريتها، وتخالط عندي البارحة وأنا أودع زوجها الكريم دمعة حزن هي المعتادة ودمعة فرح حينما أكرمني بقوله إن منزلتك خاصة عندها، ومحبتها لك حديثها المتصل، وذرفت عند ذلك دمعة فرح مصحوبة بدعوة صادق أن يُفرح الله قلبها بمنزلة رفيعة عنده ويكرم ضيافتها ويحسن وفادتها ويفتح لها باب الحمد إلى الجنة لأنها من أهل الحمد والصبر والاحتساب. وفي النظرة الأخيرة لها والسلام عليها وتقبيل جبينها الطاهر، شاهدت وجهاً مضيئاً كالبدر وبياضاً كبياض القمر، تعلوه إبتسامة النقاء ووشاح الصفاء، وكأنها نائمة تنتظر الصباح المشرق كوجهها البهي الشارق ولو كان مفارق. الحديث عن كريمة أخي وشقيقة نفسي يطول ويطول ويطول، ولا أجزم ألا أن الحزن سيطول عليها والذكريات لن تنسى منها والشوق لها سيستمر حتى اللقاء بها في الجنة على سرر متقابلين برحمة الله وكرمه ومغفرته. رحمها الله رحمة الأبرار وأدخلها الجنة مع عباده الأخيار مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وأسأل الله أن يربط على قلب والدي وأخي ووالدها ووالدتها وأخواتها وإخوانها وزوجها وولديها وجعل فيهما البركة والصلاح، ورزقها برهم والصدقة والدعاء لها وعنها، فصلاح الآباء والأمهات يدرك الأبناء والبنات لصلاح التربية، وديون قدموها لوالديهم وسيسددها الأولاد لهم.. فهد بن أحمد الصالح