في كل مدينةٍ نسكنها، ثمة مدنٌ أخرى تختبئ في الظلال، لا تُرى بالعين المجردة، بل تُدرك بعين القلب، وبصيرة الخيال، وهمسات الزمن الذي مضى. مدن هي بمثابة طروس تحتفي بمعالمها المثالية، بيد أن أطيافها البائدة لا تنفك تبحث عن سبيل للانعتاق للبروز من جديد. ظلال مدنٍ في كل مدينةٍ عربية، ثمة زاويةٌ تحتفظ بأسرار السنين، وعبق القرون، في الرياض يمكن للمرء أن يتجول في سوق الزل القديم؛ حيث تتردد أصداء خطوات التجار الذين عبروا الصحراء حاملين البخور والتوابل. ولشدة ما كان «امرؤ القيس» مصيباً، حين وقف على الأطلال يستحضر مدينةً خفيةً من الحنين: قِفَا نَبْكِ مِنْ ذِكْرَى حَبِيبٍ وَمَنْزِلِ بِسِقْطِ اللِّوَى بَيْنَ الدَّخُولِ فَحَوْمَلِ راسماً بذلك مدينةً متخيلةً، مبنيةً من شظايا الذكريات؛ حيث يتجلى المكان كياناً حياً مثقلاً بأوزار العشق والفقد. في القاهرة، بين أزقة الحسين والسيدة زينب... تتسلل أنغام التصوف إلى الروح، كما يتغلغل بوح «ابن الفارض»: وَمَا بِيَ مِنْ سُكْرٍ وَلَكِنَّنِي أَرَى الْمَدَى مَمْلُوءَ أَنْوَارِ الْهُدَى هي إشراقاتٌ مدينةٍ خفية، تتجاوز الحدود المادية لتصبح فضاءً روحيًا يحتضن الإنسان بمعناه العميق. ونجد صدىً لهذا التأمل في رواية باب الشمس ل «إلياس خوري»؛ حيث تصبح المخيمات الفلسطينية مدنًا سَرابية تحمل ذاكرة الوطن: «كانت المخيمات مدنًا من القصص، كل خيمةٍ تحمل حكاية، وكل حكايةٍ تبني مدينة» (خوري، باب الشمس، دار الآداب، ص:201)، متحولة بذلك من مدن مادية، رغم بساطتها، إلى فضاءاتٍ تضرب أميالا في الخيال؛ حيث يعيش الإنسان قصته ويحافظ على هويته. مدن خيالاتنا يستبطن كل واحد منا مدينة خفية مبنيةً من أحلام الطفولة، ومشيدة من ذكريات الأحبة، وأمنياتٍ ظلت حبيسة القلوب. ولا شك أن المبدعين تفوقوا في التعبير عن مدن خيالاتنا؛ ففي رواية رجال في الشمس ل «غسان كنفاني»، تتحول يافا إلى مدينةٍ خفيةٍ... ليست مجرد فضاء يشرف على البحر، بل رمزٌ للحنين والشتات؛ فقد «كانت يافا بالنسبة له ليست مدينة، بل كانت فكرة، كأنها حلمٌ لا يُمسك» (كنفاني، رجال في الشمس، دار الآداب، 1963، ص: 45). هذه المدينة الخفية، التي يحملها اللاجئ في قلبه، هي ما يمنحه القوة للصمود، حتى في مواجهة العزلة والخسارة. ويبدو أن خيالات المبدعين في كل مكان وزمان، داخل جميع اللغات، بحثت عن مدنها الأثيرة في أروقة الخيال ودهاليز الأحلام؛ فهذه رواية مائة عام من العزلة ل «غابرييل غارسيا ماركيز»، تبدو فيها مدينة ماكوندو وكأنها مدينةٌ خفيةٌ تتجاوز حدود الواقع: «كانت ماكوندو مدينةً من المرايا، أو بالأحرى سرابًا، لأن كل من عاش فيها كان يحملها في قلبه بشكلٍ مختلف» (ماركيز، مائة عام من العزلة، ترجمة صالح علماني، دار التنوير، 2007،ص: 112). وماكوندو، مثل يافا كنفاني، ليست مجرد مكان، بل هي فضاءٌ متخيلٌ يحمل أحلام سكانها وآلامهم، بيد أنها مدينة (مدن) خفيةٌ تتشكل من الذاكرة الجماعية. في شعر «محمود درويش»، تتحول القرى الفلسطينية إلى مدنٍ خفيةٍ من الكلمات: على هذه الأرض ما يستحق الحياة على هذه الأرض سيدة الأرض (درويش، على هذه الأرض، دار الشروق، 2005، السطر 1-2). هي مدينة متخيلة تحمل في طياتها الأمل والمقاومة، وتغدو ملاذًا للروح؛ حيث تتجاوز الكلمات حدود الواقع لتصنع فضاءاتٍ جديدة. مدن واقعنا ناطحات السحاب، والعمارات... ضجيج يعم الأرجاء، يخترق هدوء الروح، يدفعك إلى أن تفكر في ملاذات حتى وإن كانت لا تكاد تتجاوز الخيال. في دبي، بين الأبراج الزجاجية، قد تجد مقهىً صغيرًا يحتفظ بروح الضيافة العربية وأريج الماضي، كأن الزمن توقف عند قول «أبي نواس»: «دَعِ الْمَدَائِنَ وَاسْتَمِعْ لِلنَّايِ يَشْدُو» (أبو نواس، الديوان، تحرير عبدالله الغذامي، دار الفكر، 1987). وفي بغداد، على ضفاف الفرات، قد تصادف أشجاراً أو زهوراً تهمس كما همس المتنبي: «وَمَا الْمَدِينَةُ إِلَّا مَا بَنَاهُ الْحَنِينُ» (المتنبي، ديوان، تحرير عبد الرحمن البرقوقي،دار الجيل، 1990). في الضفة الأخرى، يصف ماركو بولو (في رواية مدنلا مرئية ل «إيتالو كالفينو») مدنًا خيالية لقوبلاي خان، لكنها في النهاية تعكس جوانب من البندقية، مدينته الأم: «كل مدينةٍ أصفها لك تحمل شيئًا مني، لأن المدن ليست سوى مرايا للروح» (كالفينو، مدن لا مرئية، ترجمة أنطوان أبو زيد، دار ورد، 1997، ص: 54)؛ وهي بذلك مدن لا تكاد تبرح دواخلنا، تتشكل من تجاربنا وأحلامنا، ولا تمت بصلة لمدن الواقع. رغم كل ما قيل، فليست المدن الخفية عصية على الأفهام، ولا هي بالبعيدة عنا؛ فقد نصادفها في زاوية بيتٍ قديم، في مقعدٍ بجانب نافذة تطل على شارعٍ مألوف، في قصيدةٍ لم تُكتب بعد... إنها دعوةٌ لنرى العالم بعيون المبدع، ونسمع المكان بقلب العاشق؛ بل برهافة روح «نزار قباني» عندما قال: «إنني أسكن مدينةً من الأحلام، لا شوارع فيها، لكنها مليئة بالنجوم» (قباني، الديوان،2000، ص: 132). غسان كنفاني