في كل موسم حج، تعود الأسطوانة المشروخة ذاتها: "دعوا الناس يحجّوا دون قيود!" في دعوة صريحة للفوضى في إدارة أعظم شعيرة دينية.. هؤلاء لا يعارضون "التصريح"، بل يعارضون التنظيم، إذ يرون في كل نظام خصمًا يهدد ما اعتادوه من فوضى، وهذه الفئة، لا في الحج ولا في غيره، تقودها ثقافة تعتقد أن كل نظام قابل للكسر إذا كانت النية "طيبة"، وكل تجاوز مبرر إن كانت الغاية "نبيلة". وكأن من يردد هذا الخطاب لا يدرك أن سلامة الحجاج فريضة، وأن التنظيم ليس تضييقًا، بل ضرورة شرعية وإدارية لحماية الأرواح والتيسير على الحجاج؛ حتى لا يتحول الحج إلى موسمٍ سائِب، بلا ضبط ولا ضوابط، تتكدس فيه الحافلات، وتُختنق الطرق، وتُنهك الخدمات، وتُزهق الأرواح، ثم يُقال بعد كل ذلك: أين التنظيم؟! حملة "لا حج بلا تصريح" ليست ترفًا إداريًا، ولا ورقة ثانوية تُختم في المطار، بل هي جزء من منظومة شرعية وتنظيمية متكاملة، وهي سياج وقائي يحمي الحاج قبل أن يحج، ويوفر له خدمة آمنة، وسكنًا معلومًا، وتنقّلًا مضمونًا، وبيئة تعينه على أداء الشعيرة في أجواء كريمة تليق بالركن الخامس من أركان الإسلام.. إذ ليست المسألة شوقًا إلى الكعبة فقط، بل وعيًا بمعنى الفريضة، واحترامًا للطريق إليها. لقد نجحت الحملة بالفعل، ليس فقط بالأرقام، بل بروحها التي كرّست ثقافة الوعي بالأنظمة، ورسّخت قناعة مجتمعية بأن التنظيم جزء من العبادة، لا عائق لها؛ فالنتائج المعلنة تعكس دقة في التخطيط، وحزمًا في التطبيق، وهي ليست أرقامًا عابرة، بل شواهد على أن الحملات العشوائية باتت محاصَرة، وأن موسم الحج بات أكثر أمنًا وكرامة لمن التزم النظام. ولم يكن هذا النجاح صدفة، بل ثمرة تناغم بين الأمن والتقنية والتخطيط؛ إذ سخّرت الجهات المختصة الذكاء الاصطناعي، والطائرات المسيّرة، وكاميرات الرصد، لتوقُّع الحشود وتفكيكها قبل أن تتراكم، وساهمت الرسائل الإعلامية التحذيرية، والتواجد الميداني المكثف، في توعية الناس ومنع التسلل من جذوره، حتى "النية الطيبة" التي طالما اتكأ عليها المتجاوزون، اصطدمت هذه المرة بجدار النظام، ووعي المجتمع، الذي بدأ يُفرّق بين الرغبة في الطاعة، والإضرار بها. ومع أن بعض الأصوات حاولت تصوير الحملة كعائق، فإن الواقع كشف زيف هذا الادعاء، إذ كانت الحملة تسير بالتوازي مع حسن الاستقبال، وسهولة الإجراءات، وسلاسة التفويج، في مشهد يُثبت أن التنظيم ليس ضد الحاج، بل معه، لحمايته وخدمته. إن نجاح هذا الموسم، بما اتسم به من دقة وسكينة وأمن، كان أبلغ ردّ على دعاة الفوضى؛ فليس ما تحقق مجرد إنجاز تنظيمي، بل رسالة واضحة بأن الحج لا يُدار بالعشوائية، ولا يُؤدى بتجاوز النظام، وأن خدمة ضيوف الرحمن مسؤولية لا تحتمل المجاملة، ولا تسمح بتكرار الأخطاء، فالحج عبادة، والنظام حرمته من حرمة المشاعر.