ليس الحج مجرد طواف حول الكعبة، أو وقوف على جبل عرفة، بل هو رحلة داخلية عميقة، تهدف إلى إعادة تشكيل الإنسان من الداخل قبل أن تكون عبادة ظاهرية. إنه انتقال من ضجيج الحياة اليومية إلى سكون الروح، ومن تشتّت العالم إلى توحيد القلب. في كل عام، يترك ملايين المسلمين حول العالم ديارهم، ويتوجهون صوب مكة، يحملون في قلوبهم شوقًا وندمًا، أملًا ودموعًا. إنه الموعد السنوي الذي يجمع الإنسانية في أعظم مشهد للتواضع، حيث تسقط الفوارق بين الفقير والغني، المسؤول والعامل، فيذوب الجميع في لباس أبيض واحد، وكأنهم يقولون: "ها نحن عراة من كل ما شغلنا عنك يا الله". مناسك الحج ليست طقوسًا مجردة، بل رموزاً غنية بالدلالات: السعي بين الصفا والمروة هو سعي الإنسان في دروب الحياة، والطواف حول الكعبة دوران حول القبلة الكبرى، والمركز الروحي. أما الوقوف بعرفة، فهو لحظة مواجهة مع النفس، وفرصة للمحاسبة والمغفرة. وحتى رمي الجمرات، فهو رمز لرفض وساوس الشيطان، ومقاومة الشر. في زمن التشتت والانشغال، يأتي الحج ليعيد ترتيب الأولويات. يجعل المسلم يعود من رحلته أكثر وعيًا بقيم التواضع، والتسامح، والإحسان. إنه ليس طقسًا ينتهي بانتهاء الأيام، بل بداية جديدة لحياة أنقى، وأقرب إلى الله. الحج.. هو العودة إلى الأصل.