لطالما كان المتحف مرآة الأمم التي تعكس الوجه الحقيقي للحضارة والثقافة، ومجالًا حيًا تُستعاد فيه الهوية وتُفهم من خلاله مساهمات الشعوب في تشكيل الوعي الإنساني. ويُعد هذا المرفق الحيوي من أبرز الركائز الثقافية لما يخلقه من بيئة معرفية تُسهم في الارتقاء بالتذوق الفني، وتنمية الحس الإبداعي لدى الأفراد. ومن هنا، باتت هذه الصروح معيارًا حضاريًا تُقاس به نهضة المجتمعات ووعيها. إن المتأمل لدور المتاحف في إثراء الوعي وتوسيع آفاق المعرفة يلمس أثرًا بالغًا يستحق الوقوف عنده، خاصة في ظل ما تمتلكه من قدرة فريدة على ربط الإنسان بجذوره، والتعبير عن الحاضر، وفتح نوافذ نحو المستقبل. ويبرز في هذا السياق الدور المتنامي الذي تقوده هيئة المتاحف بوزارة الثقافة، ضمن جهودها لتعزيز المشهد التراثي والحضاري للمملكة، والنهوض بهذا القطاع محليًا وعالميًا. ويكفي أن نعلم أن عدد المتاحف حول العالم، بحسب اليونسكو، يتجاوز 95 ألف متحف، مما يعكس مكانتها كمراكز ثقافية مؤثرة. تؤدي المتاحف أدوارًا متعددة، من أبرزها تعزيز التواصل الثقافي، وبناء جسور الحوار بين الحضارات، والتعبير عن هوية الشعوب من خلال مساحات تفاعلية تُلبي الاحتياج المحلي ضمن سياق عالمي. كما تسهم في تنمية قدرات النشء على البحث والاكتشاف، وتغذية الخيال والإبداع، بما يُسهم في تنشيط الحراك الثقافي والعلمي، وترسيخ الاستمرارية الحضارية. ومع التحول الثقافي الكبير الذي تشهده المملكة ضمن رؤية 2030، تبرز المتاحف بوصفها مراكز للهوية والانتماء. ويُعد متحف مركز الملك عبدالعزيز الثقافي العالمي (إثراء) – مبادرة أرامكو السعودية – أحد النماذج الريادية في هذا السياق، من خلال ما يقدمه من معارض فنية محلية وعالمية تُسهم في تطوير الإنتاج الفني السعودي، وإلهام الفكر، وإشاعة الجمال. ويمتلك المتحف اليوم أكثر من ألفين قطعة فنية وأثرية، تُعرض ضمن مجموعة إثراء الدائمة. ويفتح متحف إثراء أبوابه عبر خمس قاعات تحتفي بالفنون الإنسانية، حيث يستلهم الزائر من الماضي رؤى للمستقبل. وتشكل الفنون البصرية المساحة الأوسع في المركز، يكتشفون من خلالها كنوزًا من العالم ومقتنيات تعود لمئات السنين. كما يتيح المتحف فرصًا لتخصصات عالمية جديدة، تُسهم في تمكين الشباب السعودي وتوطين المهن المرتبطة بعالم المتاحف والآثار. وفي هذا العام، وتزامنًا مع "عام الحرف اليدوية"، شاركنا في تقديم سلسلة من المعارض التي تُعيد الاعتبار للصناعات اليدوية السعودية والعالمية. ويؤكد إثراء من خلالها أهمية مواكبة احتياجات المجتمع وتقديم تجربة معرفية نوعية، عبر معارض مثل: حوار الحرف، الحرف الأبدية: فن المخطوطات، في مديح الفنان الحرفي، وامتداد: الأزياء التقليدية في المملكة، بما يُجدد التأكيد على دور المتحف كأحد المكتسبات الوطنية، وجسرًا فاعلًا للتواصل الثقافي مع العالم، نحو مستقبل أكثر استدامة. لسنا هنا لنحفظ الذاكرة، بل لنوقظها. فحين يتذكّر المجتمع ذاته، يصبح المستقبل امتدادًا طبيعيًا لما يستحق أن يبقى. ومن هذا الإيمان، نسعى في إثراء لأن تكون المتاحف منبرًا لكل من يبحث عن النور، وبوصلةً يستدل بها على ذاته، لا على هوامش مستوردة، بل من عمقنا المحلي، ومن جذورنا الإسلامية التي لا تزال تنبض بالحكمة، والمعنى، والقدرة على الإلهام. *رئيسة المتحف في مركز الملك عبدالعزيز الثقافي العالمي (إثراء)