لم يكن عنترة بن شداد استثناءً حين مزج في شعره بين المكان والزمان والموقف؛ فقد كان ذلك سِمَة ملازمة لعبقرية الشعراء منذ العهد الجاهلي وحتى العصر الحديث، كما تجلّى في أعمال الأمير عبدالله الفيصل، وثريا قابل، ورواشين فوزي محسون، وبيئة بشير شنان الشعبية. منذ ذلك الزمن، ظلّت «داحس والغبراء» مثالاً حيًا يُستشهد به في بناء القصيدة على أساس من الزمان والمكان، كما قال عنترة في قصيدته الشهيرة (ألا يا عبلُ قد زاد التصابي): «سلي يا عبلُ عنّا يوم زرنا قبائل عامرٍ وبني كلابِ» هذا التوظيف للزمكان لم يكن مقتصرًا على عنترة؛ بل سارت على نهجه أجيال من الشعراء، وإن اختلفوا في الأساليب والقدرات والسياقات الزمنية. فالقيمة الأدبية لهذا الدمج بقيت حاضرة، وتطوّرت حتى وصلت إلى القصيدة المغنّاة ذات الطابع القصصي، حيث تتجلّى بيئة الشاعر وموقفه وانفعاله ضمن سردٍ فنيّ يربط الحكاية بجغرافيا محددة وزمن معيّن. ومع تغيّر الأزمنة وتبدّل الذائقة، لم تعد القصيدة المغناة تنبض بذات العفوية والثراء، بل انحصرت في أنماط غنائية محددة، وتراجعت قدرتها على حمل الشعور المتدفق. ومع ذلك، بقي بعض الشعراء والفنانين أوفياء للبيئة التي خرجوا منها، يقدمون أعمالًا تنبض بالواقع وتوثّق المكان بلمسة وجدانية. الأمير عبدالله الفيصل قال ذات يوم: «يا ريم وادي ثقيف.. لطيف جسمك لطيف»، وهنا انطلقت فكرة الأغنية من موقع جغرافي محدد، منح الأغنية بُعدًا ثقافيًا ومكانة للمكان ذاته، خاصة بعد أن غنّتها نجاح سلام بلحن طارق عبدالحكيم، وهكذا تحوّل «وادي ثقيف» إلى رمز فني متداول بفضل هذه القصيدة. الكثير من الفنانين، في الأغنية الكلاسيكية تحديدًا، لم ينفصلوا عن بيئتهم الشعرية الأصلية، بل استثمروا ذكر المكان والزمان لخلق علاقة وجدانية مع المتلقي، ليس بوصف لغوي مجرّد، بل بتسجيل حيّ للحادثة والمشاعر التي أحاطت بها. فوزي محسون -على سبيل المثال- كان يكرر ذكر جدة في أغانيه، مدفوعًا بإبداع الشاعرة ثريا قابل التي استلهمت من رواشين المدينة وأزقتها صورًا شعرية مؤثرة، في أغنيتها الشهيرة: «نستنا وإحنا في جدة نسيت أيامنا الحلوة ولا عاد زلّة أو طَلّة يحق لكم لنا الله» هذا النوع من القصائد يسمح للمتلقي باستيعاب تاريخ مصغّر، أو فهم قصة مغنّاة تحمل بين سطورها نكهة البيئة وصوت الزمن، أحيانًا تكون المجازية عالية، لكن الصورة حقيقية في جوهرها، تنبع من اختيار ألفاظ جغرافية وملامح واقعية تجعل الأغنية وثيقة وجدانية. الفنان فهد بن سعيد قال: «يا شين بيتي عقبكم يا أهل البيت لا غابوا أهل البيت وش ينبغى به» جسد في هذه الكلمات مفهومًا مكانيًا بسيطًا لكن شديد التأثير؛ البيت ليس المكان فحسب، بل الحضور والزمن والأشخاص. وعلى امتداد العالم العربي، حضرت «الأمكنة» في أغاني فيروز في «على دير بوسطة»، وأم كلثوم في «على بلد المحبوب»، وأسمهان في «ليالي الأنس في فيينا»، ومحمد عبدالمطلب في «ساكن في حي السيدة»، وصولًا إلى نبيل شعيل في «ألا يا أهل الرياض»، وفهد بلان في «يا بنات المكلا». أما بشير حمد شنان، فكان من أبرز من عبّر عن الزمكان في الغناء الشعبي، رسم بالرياض خريطته البيئية والوجدانية، عازفًا على العود بصوتٍ ينتمي لزمن كان فيه الغناء مرآةً للمجتمع، قدّم عبر قصائده حالات إنسانية من واقع الناس في الستينات والسبعينات، بروح أنثروبولوجية توثّق الواقع وتحتفي بالبساطة. عيسى الأحسائي سار على الدرب ذاته، إذ جسّد البيئة من خلال الأغنية، متحررًا من التكلّف اللغوي ومتفاعلًا مع حسّ الناس وأسلوبهم في التعبير. لقد كانت تلك الحقبة الزمنية لحظة تصالح نادرة بين الغناء والمجتمع، قبل أن تعصف بها موجات من التصورات التربوية المغلوطة التي همّشت الفن الواقعي. ويظل كثير من المثقفين يرون أن هذا النهج الواقعي في الأغنية -الذي يحتفي بالمكان والزمان والحدث- هو الأجمل والأبقى، لأنه سهل ممتنع، عالق في وجدان الناس، حتى وإن تجاهله الإعلام. بشير شنان التصق بالوقت وقصة الحارة