أتابع كما يفعل العديد من المهتمين بالاقتصادالسعودي، نتائج إعلانات الربع الرابع للشركات المدرجة في السوق المالية السعودية (تداول)، والتي تعكس متانة الاقتصاد الوطني وتبعث على السرور بما وصل إليه اقتصاد المملكة بحمد الله تعالى والتفاؤل بمستقبل اقتصادي أكثر نموا بخطى ثابتة. وبينما تتوالى هذه المؤشرات الإيجابية، تساءلت كأكاديمي وموظف حكومي: هل يمكن تحقيق إيرادات جزئية من التعليم العالي تدعم رؤية المملكة 2030؟ والإجابة عن هذا السؤال، من وجهة نظري تحتاج إلى تفصيل مطول. وليس الهدف من هذا المقال ليس فقط الترويج لفكرة تحقيق الربحية من التعليم العالي، وإنما لبحث أوجه أخرى تعزز كفاءة هذا القطاع، وتحقق تكامله مع بقية قطاعات سوق العمل، دون الإخلال بجوهر رسالته الأساسية وللمساعدة على استمراريته كتعليم مجاني يخدم كافة شرائح المجتمع. فالواقع أن التعليم يعد ركيزة أساسية لتنمية مستدامة،إذ تستحوذ وزارة التعليم على ما يقارب 20 % من ميزانية المملكة المعلنة لعام 2025، وذلك في إطار الجهود المستمرة لحكومة خادم الحرمين الشريفين لتحقيق مستهدفات رؤية 2030، التي تقوم على ثلاثة محاور رئيسة: مجتمع حيوي، واقتصاد مزدهر، ووطن طموح. وفي الوقت الذي تتمكن فيه بعض الوزارات الخدمية من تحقيق إيراداتٍ تغطي كل جزء من تكاليفها التشغيلية، يبرز التساؤل حول إمكانية إيجاد مورد إضافي للقطاع التعليمي الجامعي في المملكة دون المساس بجودته، فمن جهة؛ تمتلك الجامعات السعودية مخزونًا هائلًا من الخبرات الأكاديمية والعلمية التي يمكن استثمارها في تقديم الاستشارات والدراسات البحثية للجهات الحكومية والخاصة. ومن جهة أخرى، تشير التجربة العملية في كثير من الدول الصناعية -ومنها محل المثال كندا- إلى ارتفاع مستوى الربط بين احتياجات سوق العمل ومخرجات التعليم، هذا الربط العالي مكن الجامعات من التفوق في الأبحاث العملية والدراسات وتطبيقها تطبيقا مباشرا، وساعد الباحثين على الحصول على فرص عمل، محفزا الحكومة الكندية في إيجاد مصادر تمويل إضافية للجامعات لضمان استمرارية عملها كجامعات بحثية وتعليمية على النحو المطلوب. ويبرز مجسم وقف الملك عبدالعزيز في مركز هندسة الرياح في جامعة ويسترن الكندية كدلالة على مدى استثمار تلك الموارد، هذا التناغم الكبير بين المراكز البحثية لم يأت من فراغ، حيث تفرض الحكومة الكندية ضرائب دخل على الشركات، مع إمكانية دفع تلك الضرائب لتمويل المؤسسات غير الربحية وهي فرصة ذهبية وجدها القياديون في تلك الشركات لتمويل الباحثين لوضع حلول عملية لمشكلاتهم التطبيقية ممكننا إياهم استقطاب هؤلاء الباحثين مستقبلا. ويمكن للكوادر الوطنية المؤهلة القيام بالمهام الاستشارية للمشروعات الكبرى وبكفاءة دون الحاجة لشركاتٍ استشارية دولية، وتعكس الأرقام الرسمية حجم الفرص المتاحة، حيث أعلنت وزارة المالية تخصيص أكثر من نصف تريليون ريال سعودي لمشاريع البنية التحتية وتعويضات العاملين في قطاعات التعليم والصحة والخدمات البلدية والنقل، هذه المشاريع بطبيعتها تحتاج إلى استشارات متخصصة لضمان تنفيذها وفق أعلى المعايير. وإذا ما نظرنا إلى الأرقام المعلنة عن شركات كبرى مثل PwC وEY وDeloitte وغيرها، نجد أنها تحقق إيرادات مرتفعة تصل إلى 75 مليار ريال من عملياتها في الشرق الأوسط، ومع قرار صندوق الاستثمارات العامة إيقاف التعامل مع PwC، تبدو الحاجة مواتية لأن يُمنح قطاع التعليم دورًا محوريًا في تقديم هذه الاستشارات، كما أرى أنه أصبح من الضروري أن تتبنى وزارة التعليم نهجًا جديدًا يوازن بين رسالتها الأكاديمية وبين تعزيز دورها كمسهم في الاقتصاد الوطني، وذلك يتطلب مزيجًا من التشريعات والسياسات العامة التي تُمكن الجامعات السعودية من تقديم خدمات استشارية مدفوعة، مما يسهم في تعظيم الفائدة من كوادرها الأكاديمية، ويعزز دور التعليم العالي في دعم التنمية الوطنية. إن تفعيل هذا الدور لن يُسهم فقط في تقليل الاعتماد على الشركات الاستشارية الأجنبية، بل سيخلق أيضًا بيئة أكاديمية أكثر انخراطًا في المشهد الاقتصادي، مما يعزز جودة البحث العلمي ويربطه باحتياجات السوق المحلي. فهل نرى قريبًا تحول الجامعات السعودية إلى مراكز بحثية واستشارية ترفد الاقتصاد الوطني بخبراتها، وتحقق قيمة مضافة مستحدثة؟