أتت جائحة كورونا - قدر الله المكتوب - في عالم يعيش حالة مخاض سياسي وعسكري وثقافي غير مسبوق، لم يعد هناك قطبان يتقاسمان العالم ويوازنان المصالح بحسابات دقيقة، كانت دروس الحرب العالميّة الثانية قاسية ثم كان انهيار الاتحاد السوفييتي ثم ها هو التقهقر واضح للنفوذ الأميركي، فراغ سياسي فجّر الحروب الحدوديّة والطائفيّة وأهليّة في دول لم تستطع العيش دون ظلال القوى الكبرى. ورأينا التحول الأعظم من تأثر القوى العسكريّة والسياسيّة التابعة للدول إلى نفوذ مجاميع وتكتلات اقتصاديّة وقوى ليبراليّة ويساريّة وأخرى قوميّة محافظة تجتاح الدول الكبرى وتعبر إلى ما وراءها. لم تعد "الدول" قادرة على القيام بمهامها القديمة فلم تعد تحتاج إلى استعمار مباشر أو نفوذ مكلّف، ناهيك عن تكلفة تحريك الجيوش وضعف معنويات الجنود فلم يعد الخطاب الدعائي كافيا لرفع الهمة الوطنيّة مع غياب وجود عدو واضح. وهكذا تحرّكت هذه القوى الماليّة والثقافيّة (الفكريّة) البديلة بما تملك من مال وإعلام ومراكز بحثيّة وحقوقيّة وبدأت تستأجر أو تكلف دولا صغيرة طامحة وجماعات طامعة لتساعدها في أداء مهام إعادة ترتيب أوضاع العالم وربما تعديل خرائطه وفق الرؤية الجديدة. واليوم وفي معمعة عاصفة كورونا بدا وكأن الدول الكبرى ستضطر إلى مراجعة واختبار مقدراتها وعلاقاتها بل وحتى إمكاناتها التي لم تصمد في صد عدو لم يستثن من طعناته رئيس وزراء أو رئيس دولة أو حتى مشهور غني تحصّن بجيوش الأطباء والممرضين، جيش كورونا هذا جعل دول مجلس الأمن تفتقد الأمن الذي كانت تبيع وتشتري به مصائر الأمم والشعوب ووضعها أمام تحد تاريخي، ها هو الاتحاد الأوروبي اليوم يعجز عن دعم أهم مرتكزاته في إيطاليا وإسبانيا ودول أوروبا الشرقيّة وفي أميركا حتى الأمل لا يباع ويشترى، فيروس كورونا كشف ليس عن انهيار أنظمة الصحة والأمن الغذائي بل أطاح حتى بالأمن النفسي في ظل تنافس القادة على تصريحات استباق وصول العدوى بإثارة الهلع واليأس. أمّا الصين عدو الأمس فقد كشفت الأزمة أنها عداوة الحمقى فبعد أن اشترى الصينيون قلب كل مدينة أوروبيّة، وابتاعوا آلات مصانع روسيا، وتملكوا أسرار الإبداع الغربي عبروا نصف أزمتهم بصمت وهم يمدون الألسن لكل الحمقى، بل لقد بادروا في خطوات رآها اليائسون الغربيون خطوات حضاريّة وأخلاقيّة بإرسال طائرات الإغاثة والدعم الطبي والتجربة الصينيّة لكل طالبيها دون إثارة أو تبجّح بتصريح سياسي، إنه عالم ما بعد كورونا وكأنه يقول للتاريخ بأنه لن يشبه ما قبله. * قال ومضى: الأزمات تمضى.. وسيذكر التاريخ أبطالها.