العالم الإسلامي يدرك وبشكل عميق أن الظاهرة العثمانية لم تكن يوماً من الأيام من عوامل تعزيز العالم الإسلامي، وكل الأسباب التاريخية خلف الظاهرة العثمانية تؤكد الانفصال المتعمد بين الظاهرة العثمانية وبين العالم الإسلامي.. سوف يظل الشعب التركي منفصلاً عن الظاهرة العثمانية، مهما حاول الرئيس أردوغان أن يشرح في كل لقاء يمارس فيه مهاراته الخطابية فوق جمهور تم فصله عن التاريخ الفعلي بشكل متعمد أو بشكل متسلط، والسؤال الأول الذي يمكن أن تبحث عن إجابته يقول ما الظاهرة العثمانية؟، وقد شاهدت لقاء رائعاً في برنامج "في الصورة" الذي يقدمه الإعلامي المميز عبدالله المديفر فند فيه الدكتور سلطان الأصقة تاريخياً الظاهرة العثمانية التي استجدت صورها خلال العقد الماضي في محاولات تاريخية لا يبدو أنها تمتلك تلك الصلابة التأسيسية لبناء مجد جديد. السؤال الثاني: هل استعادة الظاهرة العثمانية وفق منهجية الرئيس الحالي مضرة سياسياً واقتصادياً للشعب التركي والعالم الإسلامي؟ الذي ينظر إلى الشعب التركي كونه شعباً مسلماً مهماً في الكم الإسلامي وليس أكثر من ذلك، ولكي تكون الصورة أكثر وضوحاً فإنه لا بد من فهم أن التاريخ لا يصبح بالضرورة أكثر وظيفية وتأثيراً عندما يتم استخدامه وفق معايير يمكن تفنيدها وتفكيك حقائقها بمجرد قراءة واضحة للتاريخ. الأزمة التي يمكن أن تنشأ من تمادي الظاهرة العثمانية لا تتوقف عند الخطاب الإعلامي ولكنها تتعدى ذلك إلى الإساءة إلى مواقع متعددة تبدأ بالداخل التركي ومدى تأثره بالظاهرة العثمانية، الظاهرة العثمانية من وجهة نظر الشعب التركي هي مرض اجتماعي تاريخي تمكن القائد التركي كمال أتاتورك من إجراء عملية استئصال ناجحة لتلك الظاهرة، لأن العالم تجاوز مرحلة الإمبراطوريات، كما أن الظاهرة العثمانية لم تكن يوماً من الأيام مقبولة بين أبناء الإسلام، فالظاهرة العثمانية ظاهرة توسعية تبنت مسارات فكرية وأيديولوجية مضادة للسائد الإسلامي من العقائد والممارسات الدينية كما يقول التاريخ. التاريخ بطبيعته لا يمكنه أن يحل كل المشكلات! والرئيس التركي يدرك أن التاريخ لا يمكن أن يقدم له الخلاص من المشكلات التي تعاني منها تركيا، ولذلك حاول الرئيس التركي خلال المرحلة الماضية مواجهة العجز التاريخي لمعطياته السياسية عبر استخدام منهجية القوة الناعمة، وقد نجح في الترويج لذلك عبر تضليل متعمد للتاريخ، وهذا أحد الأسباب المهمة في تنامي الظاهرة العثمانية التي يروج لها أردوغان، وبالفعل حصل على مركز متقدم بين دول الشرق الأوسط في تقرير القوة الناعمة عالمياً، نشرته شركة بورتلاند صدر العام 2018م. ولكن يبقى السؤال المهم حول قدرة الظاهرة العثمانية على الصمود في مواجهة الأسئلة العميقة اقتصادياً وسياسياً واستراتيجياً، فالقوة الناعمة بطبيعتها تستخدم الجاذبية والإقناع الإيجابي، ولكن شروط القوة الناعمة تتطلب معايير تاريخية لا تقبل التشكيك في المهمة والأهداف كما تعاني الظاهرة العثمانية التي يروج لها اليوم، كما أن المعايير الحضارية الداعمة للقوة الناعمة لا تتوفر لدى الاقتصاد التركي، وهذا ما يؤكد أن الظاهرة العثمانية ظاهرة مؤقتة تعاني حالياً من وسائل ضعف شديدة يمكنها أن تغير معادلة المسار السياسي بأكمله. الظاهرة العثمانية التي يروج لها تعاني أيضاً من نقاط ضعف شديدة تمكنت من إحصاء بعضها بالاطلاع على بعض المصادر المهمة في هذا الجانب، فعلى سبيل المثال لنقاط الضعف: أولاً: الاعتماد الكبير على السياحة، ومن المعروف أن هذه الصناعة شديدة الحساسية للمتغيرات السياسية والاقتصادية، ثانياً: الفقر الشديد في موارد الطاقة وكانت تركيا وما زالت تفكر بعقلية أتاتورك الهادفة إلى ضم الموصل الغنية بالنفط ومنطقتها إلى تركيا. ثالثاً: صراعات داخلية وإقليمية، حيث جلبت الظاهرة العثمانية لنفسها الكثير من المشكلات بينما هي تغوص في الكثير من المشكلات الداخلية فهناك ما يقارب من ستة عشر مليون كردي في تركيا لا يتم الاعتراف بهم كمواطنين، رابعاً: هناك ادعاء شديد من الظاهرة العثمانية بالتصدير إلى أوروبا، والحقيقة أن ذلك لا يعدو كونه صناعات خفيفة وملابس يمكن لأوروبا الاستغناء عنها وبسرعة، خامساً: فقدان الريف التركي لسكانه الذين يهاجرون إلى المدن مما يعني انهياراً متدرجاً لواحد من أكبر مصادر الدخل في الاقتصاد التركي. إن الفوران المفاجئ للأهواء التاريخية والأيديولوجية والقومية التي أدت إلى نشوء الظاهرة العثمانية، ليست سوى مسار مؤقت يمكن لأزمة اقتصادية بسيطة أن تكشفه، ولكن الحقيقة الأهم أن العالم الإسلامي يدرك وبشكل عميق أن الظاهرة العثمانية لم تكن يوماً من الأيام من عوامل تعزيز العالم الإسلامي، وكل الأسباب التاريخية خلف الظاهرة العثمانية تؤكد الانفصال المتعمد بين الظاهرة العثمانية وبين العالم الإسلامي عدا في مجال واحد تمثل في الطموح التوسعي لتلك الظاهرة العثمانية التي وجدت اليوم من يحاول عبثاً إحياءها من جديد.