نحن في عصر يجب أن نصنع فيه ثقافتنا الجديدة المنفتحة على الآخر والمتعايشة معه، وأن نصنع محتوى هذا التعايش والانفتاح وفق منظومتنا الثقافية التي تعكس فعلاً ما نحن عليه لا كما يريد الآخرون أن نكون عليه.. فكرة التواصل والتداخل الحضاري هي جزء من عملية التثاقف الأساسية بين الشعوب وهذا ما تقوم به المجتمعات المتحضرة في العالم، فمن المهم أن يحدث نوع من الاتصال "القيمي" الحضاري الذي يحدث تغيراً في الأفكار عند الشباب خصوصاً الذين يعول عليهم في صنع المستقبل. وإذا كنا تحدثنا في المقال السابق عن مبدأ التكيف وتقبل الأفكار الجديدة وتبنيها داخل منظومة المجتمع القيمية فمن أهم محفزات التكيف هو التلاقح الثقافي الذي يفتح المجال واسعاً أمام عقول الشباب ليعرفهم بقيمة التنوع في الأفكار والآراء وأن الحياة تتسع للجميع، وهذا في حد ذاته هدف "تعليمي" كبير ومهم يفترض أن نشجعه وندعمه. ملتقى سلام السعودية الذي يعقد في مقر وكالة الأنباء السعودية اليوم وغداً "6 - 7 يناير الجاري" ربما يمثل عنواناً للسنة الجديدة 2019 ليؤكد أن المملكة العربية السعودية، هي أرض التسامح والتنوع الحضاري، وأنها منفتحة على الآخر بكل إمكاناتها وقدراتها على استيعاب الأفكار الجديدة. سيحتوي الملتقى على العديد من الأنشطة المهمة في اليومين القادمين لعل من أهمها هو اللقاء الحواري الذي سيعقد اليوم بين شباب المملكة وشباب الدول الأخرى، ولأن الهدف الأساسي هو العمل على تعزيز الفكر المتسامح والمتجدد وتحسين صورة المملكة في أذهان الشباب من الدول الأخرى على وجه الخصوص، كون هؤلاء الشباب لم يتشبعوا بعد بالصورة الذهنية السلبية التي صنعها الإعلام خلال العقود السابقة، والتي صورت المملكة على أنها بلد منغلق ونابذ للعمل الثقافي ولا يتمتع مجتمعها بالتسامح والتواصل الحضاري. هذه الصورة الظالمة المترسخة عن المملكة لا يمكن تغييرها بالكلام بل بالعمل الجاد، وربما بالعمل الثقافي الجاد كون الثقافة والفنون هي إحدى أهم وسائل صنع "ثقافة التسامح" في العالم، فهي اللغة الإنسانية الأشمل والأوسع التي يستطيع من خلالها جميع شابات وشباب العالم التواصل مع بعضهم دون أي معوقات. دون شك إن ترسيخ مبدأ التعايش الذي يسعى له الملتقى هو هدف نبيل ومهم، وأذكر أنه قبل نحو عامين كنت مشاركاً ومنظماً لمؤتمر حول المدن السعيدة والمتسامحة والمتعايشة، وكان الحضور من كبار المتخصصين في العمران والمجتمع، وأكدوا أن السعادة الحقيقية لا تتحقق إلا من خلال تحقيق مبدأ التعايش وتقبل الآخر والمقدرة على فهم قيمه، وأنها تختلف ربما أو تتفق مع قيمنا، وأن هذا الاختلاف أو الاتفاق في منظومة القيم هو جزء من الظاهرة الإنسانية الأشمل والأكبر التي تجمعنا مع شعوب العالم. ولعل مسألة التعايش، على ما تتضمنه من مفاهيم عميقة وتربوية وتعليمية حظيت في هذا الملتقى بأهمية كبيرة؛ لأنها تقدم ثقافة علنية وعملية جديدة في المملكة، وتواجه ثقافة سابقة كانت راسخة ضمن الثقافة المجتمعية تصر على أننا مجتمع له خصوصيته، هذا أمر طبيعي، لكنها كانت للأسف خصوصية تهمش الآخر المختلف عنا، وهذه كانت المعضلة، التربية العميقة التي يسعى الملتقى لتغييرها. الفكرة بشكل عام لافتة للنظر، وكون وكالة الأنباء السعودية هي من تبنى هذا اللقاء واستضافته، فهذا يعني تغييراً عميقاً في المحتوى الإعلامي الذي تقدمه المملكة عن نفسها من خلال اتباع أسلوب صنع المحتوى الإعلامي والثقافي من خلال الممارسة والاحتكاك، لا مجرد التحدث والادعاء، وهذا ربما يمثل بداية الطريق لتغيير كثير من المسلمات عن المحتوى الثقافي الخاص بمجتمعنا الذي تركناه للغير ليعبث به ويشكله في أذهان الآخرين على هواه. نحن في عصر يجب أن نصنع فيه ثقافتنا الجديدة المنفتحة على الآخر والمتعايشة معه، وأن نصنع محتوى هذا التعايش والانفتاح وفق منظومتنا الثقافية التي تعكس فعلاً ما نحن عليه لا كما يريد الآخرون أن نكون عليه أو ما يريدون تصويرنا ووصفنا به.