فرض تاريخ إيران السياسي على حكامها العمل على نقل أي حروب تدخل فيها إلى خارج حدودها وليس إلى الداخل أو على الحدود، فقد ظلت عقلية الانحصار الجيوسياسي والاقتصادي بين طموحات روسيا القيصرية وبريطانيا العظمى في القرن التاسع عشر باقية في المخيلة السياسية لصانع القرار الإيراني. وتطورت لتتحول إلى شعور بالتهديد الوجودي، واستمرت هذه العقلية حتى بعد اندلاع الثورة الإيرانية لكن بأنماط جديدة تتواءم مع المعتقدات الفكرية لنظام ولاية الفقيه والتغييرات الدولية والإقليمية التي حدثت للإقليم. استحوذ المكون الفكري على أدوات السياسة الإيرانية في نقل الصراعات إلى الخارج بحكم الطابع الطائفي الذي غلب على النظام الإيراني، فقد مثّل التوجه بنشر المذهب الشيعي الاثني عشري - عبر تمويل فتح الحسينيات واستقدام البعثات الدينية إلى مدينة قم الإيرانية وإرسال رجال الدين الإيرانيين إلى مدن عربية مختلفة أداة بارزة لدى النظام الإيراني في خلق بؤر توتر وخلافات في الخارج تضمن بقاءً طويلاً لتلك الصراعات بعيداً عن الحدود الإيرانية. وعلى الجانب العسكري، يلعب فيلق القدس -التابع للحرس الثوري الإيراني- دوره البارز في تصعيد وتدريب وتجهيز العناصر المسلحة للبقاء في مناطق التوتر والصراعات كي تتمكن طهران من إدارة تلك الصراعات لتحقيق مصالح مختلفة تتنوع بين مد النفوذ ورفع الرصيد الإقليمي للنظام الإيراني أو المقايضة بها مع الدول الغربية للحصول على مكاسب سياسية واقتصادية (على غرار الاتفاق النووي 2015) أو تهديد دول الجوار المختلفة وفرض شروطها على أي طاولة يجلس عليها المفاوض الإيراني مع الآخرين. وقد ظهرت تجليات سياسة تصدير الصراعات إلى الخارج بالتزامن مع موجة الاضطرابات التي اجتاحت المنطقة العربية في العام 2011 والمعروفة ب"الربيع العربي" والتي قدّمت لطهران فرصاً وتحديات عملت على مواءمة سياساتها بالأدوات والأهداف ذاتها مع الوضع الجديد، مع الأخذ في الاعتبار استحداث هدف "تعزيز الصورة الفارسية" للنظام الإيراني واستحضار انتصارات التاريخ العسكري الفارسي مع الإبقاء على صورة النظام الإيراني في دور المعتدى عليه من قبل الجوار والدول الغربية لمواجهة تزايد الاعتراض والنفور الشعبي (خاصة من الفئات الشبابية) على تردي الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في الداخل الإيراني. الدور الإيراني في سورية ولبنان عبر المليشيات المسلحة مع وصول موجة الاحتجاجات إلى سورية بشكل مؤثر على بقاء النظام السوري في الحكم، ظهرت فرص أمام السياسة الإيرانية تمثلت أبرزها في تحويل دورها من حليف إقليمي في فترة الرئيس الراحل حافظ الأسد إلى حليف داخلي لبشار الأسد، وهو ما يرفع من رصيد طهران داخل دمشق بشكل يحجم أية قرارات أو سياسات قد تتخذها أي حكومة سورية مستقبلية، ويخلق للنظام الإيراني أدوات تمكنه من التواجد بشكل مباشر وطويل الأمد في الأراضي السورية وتضمن له النفاذ إلى ساحل البحر المتوسط. استعانت طهران في سياستها لإدارة الحرب السورية على أدوات عسكرية تمثلت في جلب مسلحين شيعة من مختلف البلدان - لمساعدة حزب الله في سورية - وتوفير الأسلحة لهم والمعدات والدعم المادي في مواجهة قوى المعارضة السورية للحفاظ على مناطق التخوم المجاورة للعاصمة السورية دمشق منعاً لسقوط النظام السوري، وتأمين خطوط تبدأ من الحدود الإيرانية - العراقية إلى لبنان عبر أراضي الجنوب السوري. وقد اتضح هدف أكبر للسياسة الإيرانية في لبنان وفرته الأزمة السورية يتمثل في رفع حجم التواجد الإيراني واستبدال النفوذ السوري -الذي تقزم تدريجياً منذ الانسحاب السوري من لبنان في 2005- بالنفوذ الإيراني عبر حزب الله وإدارة لبنان كبؤرة صراع جديدة لصالح السياسة الإيرانية في مواجهتها مع الجوار والغرب ومركز تدريب ودعم عالي المستوى لباقي مناطق الصراعات الإقليمية. ولم يغب الاستخدام السياسي للأدوات الدينية في الأزمة السورية بخلاف الطبيعة المذهبية للمسلحين في سورية، فقد تحدثت منابر سورية معارضة عن انتشار واسع للحسينيات الإيرانية في دمشق وتمويل من السفارة الإيرانية لشراء أراضي سورية على مدن الحدود السورية - العراقية لبناء حسينيات جديدة ونشر المذهب الاثني عشر وترويج مبدأ ولاية الفقيه. حيث يشير هذا التوجه إلى أنه من غير المستبعد خروج هؤلاء المسلحين في الأمد القريب -هذا إذا لم يتم تجنيسهم- لتضمن طهران بقاء مذهبياً وعسكرياً على الأراضي السورية طويل الأمد. الامتداد إلى اليمن والبحر الأحمر عبر دعم الحوثيين لم تغب أنظار النظام الإيراني عن الحديقة الخلفية للمملكة (اليمن) والتي شهدت موجة احتجاجات شعبية مضادة للرئيس المخلوع علي عبدالله صالح، فقد ظهرت جماعة عبدالملك الحوثي على الساحة السياسية والعسكرية اليمنية بعد سيطرة الحركة على مدينة صعدة في 2011 وظهرت مصلحة إيرانية في خلق تنظيم جديد يحاكي تنظيم حزب الله في لبنان ودعم شخص عبدالملك الحوثي كي يقود ذلك التنظيم على غرار قيادة حسن نصر الله "حزب الله" اللبناني. فعلى الرغم من اختلاف مذهب أتباع الحوثي عن المذهب الاثني عشر، إلا أن التقاء المصالح والأهداف السياسية والتوسعية للطرفين ضمن توافق ظل مستمراً بينهم منذ عام 2011 حتى اللحظة. فقد كشفت مجريات الصراع اليمني قدوم مسلحين من اليمن إلى بيروت للحصول على تدريبات عسكرية على أيدي مسلحي "حزب الله" وتوافد قادة عسكريون إيرانيون لإدارة بعض الجبهات في إيران. وقد اتضح عبر عمليات ضبط الأسلحة المهربة إلى اليمن استغلال الطرف الإيراني بعض الشركات والطرق لتهريب أسلحة مصنوعة في إيران إلى اليمن بالإضافة إلى استخدام خطوط تهريب الأسلحة في السوق السوداء الدولية الواقعة في بلدان شرق أفريقيا بشكل يضمن تفوق جماعة الحوثي عسكرياً في الصراع اليمني وتواجد إيراني في أية مفاوضات تجرى بخصوص اليمن. يماثل سعي النظام الإيراني في مد نفوذه إلى البحر الأحمر -عبر اليمن وأنشطة التهريب على الساحل الأفريقي الشرقي- السعي ذاته للوصول إلى البحر المتوسط عبر الأراضي السورية. وقد ينتج عن تلك المساعي ما تسعى إيران لتحقيقه -وهو نقل مناطق الصراع إلى أبعد مسافة ممكنة من الحدود الإيرانية- بالتوازي مع المجريات والمستجدات المتسارعة التي تضفي طابعاً دولياً على تلك الصراعات مع دخول قوى دولية كبرى عسكرياً لمناطق الصراع، كي تتمكن طهران من إدارة علاقاتها مع تلك القوى بأكثر من ورقة تمتلكها في المنطقة وتضمن تحقيق مصالحها الخاصة في أية مفاوضات تدخلها.