لعل هذه الآمال التي تدور حول فرض الهيمنة على البحر المتوسط ظلت تدور في خلد الروس لقرون؛ لذلك هي متمسكة ومتشبثة بموقفها حيال الأسد، فالأسد حقق للروس مبتغاهم الذي كان كالحلم يراودهم منذ قرون.. وصل الاستعمار الأجنبي أوج توسعه في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر على البلدان بشقيها الآسيوي والأفريقي، كما برزت روسيا القيصرية كقوى متنامية جديدة، وكان لها أطماع ظلت معلقة طوال الوقت بالمياه الدافئة في الجنوب التي كان البحر الأبيض المتوسط رمزاً لها، وجاءت هذه الأطماع مُغلّفة بصبغة دينية ألا وهي؛ حماية الأرثوذكس في العالم. ثم إن الروس أيقنوا أن تحقيق هذا المُبتغى لن يتحقق إلا في حال سقوط وإنهاء الدولة العثمانية، ونتج عن هذه الأطماع والآمال عدة حروب متلاحقة بين العثمانيين والروس، على مدى قرن ونصف قرن. ولم يكن سهلاً عليها تحقيق ذلك، لوجود أكثر من إمبراطورية تقف عائقاً لها منها، الإمبراطورية العثمانية وبريطانيا العُظمى. وللمياه الدافئة أهمية استراتيجية، ويُقصد بالمياه الدافئة هو البحر الأسود وهو بحر داخلي يقع بين الجزء الجنوبي الشرقي لأوروبا وآسيا الصغرى يتصل بالبحر المتوسط عن طريق مضيق البوسفور وبحر مرمرة ويتصل ببحر آزوف عن طريق مضيق كيرتش، وهو الطريق البحري الوحيد الناجي من التجمد؛ لذلك أطلق عليه مسمى "المياه الدافئة". كما أنه الطريق البحري الوحيد إلى بلغاريا ورومانيا وبواسطته تتصل الدول المحيطة به فيما بينها وتنفذ إلى دول أوروبا الشرقية ودول العالم، ونستنتج من كونه نافذة إلى القارة الأوروبية أن له أهمية سياسية. ويعد البحر الأسود منتجعاً صيفياً يرتاده السائحون كل عام وذلك بسبب المناخ اللطيف والينابيع المعدنية والشواطئ الجميلة ولا سيما في شبه جزيرة القرم وسواحل القفقاس، ومن هنا تبرز أهميته الاقتصادية كما يشتمل البحر الأسود على ثروة سمكية جيدة جداً. إذن يمكننا أن نستنتج أن أهمية موقع البحر الأسود نابعة من أهمية اقتصادية وسياسية بحتة، وهذا ما يعلل سبب صراع القوى المُحيطة حوله، وكان أشهر صراع دار في العصر الحديث هو الصراع الروسي - العثماني حول المياه الدافئة. وتعود جذور الصراع الروسي - العثماني على البحر الأسود وما جاوره من مناطق كشبه جزيرة القرم إلى عام 1478م عندما فرضت الدولة العثمانية حمايتها على ذات الجزيرة نفسها "القرم" وفي عام 1512م بسطت الدولة العثمانية نفوذها على منطقة تدعى ب"قازان" بعد أن ألحق بالجيش الروسي هزيمة قاسية، ثم واصل الجيش العثماني الزحف حتى وصل إلى مشارف "موسكو" وبذلك أُجبِرَ أمير موسكو "فاسيلي الثالث" على دفع الجزية للدولة العثمانية. وما بين عامي 1568 - 1570م حدثت حرب سُميّت ب"أسترهان" وهي بدورها تُعتبر أولى الحروب لأسباب جيوسياسية بين الدولة العثمانية والقيصرية الروسية. (أسترهان أوبلاست) وهي مدينة روسية كانت في السابق تابعة لولاية القرم التابعة لولاية الدولة العثمانية، ولكن في عام 1568م قامت القيصرية الروسية بالاعتداء عليها وضمها إلى حكمها، بعد قدوم خبر الاعتداء للدولة العثمانية على الفور أرسلت جيش إلى ولاية القرم وانطلق الجيش من القرم باتجاه أسترهان، استمر الحصار البري والبحري لأسترهان لأكثر من عامين ولكن البرد القارس والعواصف العاتية ونقص الإمدادات وغيرها من العوامل عطلت عملية استرجاع الجيش للولاية وبقيت بيد القيصرية الروسية، بعد انتهاء الحرب وُقعت أول اتفاقية سلام بين الطرفين عام 1970م. ثم من عام 1676م إلى عام 1828م وقعت أكثر من ثلاث حروب بين الطرفين، والجدير بالذكر أنه في الفترة ما بين عام3381- 8781م تجسد ما يسمى "بالمسألة الشرقية" تجسيداً كاملاً سواء على مستوى الدولة العثمانية أو بالنسبة لروسيا والدول الأوروبية الكبرى، وللتعريف عن "المسألة الشرقية" عرّفها بعض الباحثين بأنها: هي مسألة النزاع المستمر بين النصرانية والإسلام، وعرّفها باحثون آخرون بأنها هي مسألة وجود الدولة العلية نفسها في أوروبا. والمسألة الشرقية كما أراها: هي مسألة الهيمنة على الثروة الاقتصادية، جاءت على هيئة غلاف ديني - قومي من قِبل الدول المُتنازعة على نفوذ الدولة العثمانية في أواخر عصر ضعفها واضمحلالها. والأصول الرئيسية للمسألة الشرقية تدور حول سببين: 1- الصراع التقليدي بين الشرق الإسلامي وأوروبا الصليبية. 2- أن ضعف الدولة العثمانية عسكرياً واقتصادياً وسياسياً هو الذي جعل الأطماع الأوروبية فيها تكوّن "المسألة الشرقية" وتجعل منها أزمة دولية عارمة. ولعلي أختلف مع السبب الأول وأتفق مع الثاني؛ لأنه من وجهة نظري أن الصراع الديني انتهى منذ العصور الوسطى إلى بدايات التاريخ الحديث، وأن هذا الصراع هو صراع سياسي - اقتصادي بامتياز جاء بحُجج دينية كما زعمت روسيا حتى يصبح لها ذريعة للتدخل في الشأن العثماني. وتُشير مُعظم المصادر على أن أقوى صِدام عسكري حصل بين العثمانيين والروس هو في حرب القرم 1853-1856م التي انتهت بنصر العثمانيين على روسيا، ثم اختتمت سلسلة هذه الحروب بالحرب الروسية العثمانية عام 1876م. "هذا السرد التاريخي المُبتغى منه؛ إجابة لمن يتساءل حول سبب وقوف روسيا حالياً مع الأسد، لعل هذه الآمال التي تدور حول فرض الهيمنة على البحر المتوسط ظلت تدور في خلد الروس لقرون؛ لذلك هي متمسكة ومتشبثة بموقفها حيال الأسد، فالأسد حقق للروس مبتغاهم الذي كان كالحلم يراودهم منذ قرون؛ لذلك نفسّر عودة الأسطول الروسي إلى البحر الأبيض المتوسط غرة عام 2015م، وزد على ذلك الضغط الإيراني على روسيا حتى تثبت على موقفها، فإيران يهمها وجود الأسد وهي بذلك تعلن للملأ حرباً طائفية بكل الطرق والأدوات وهي -أي إيران- لا يهمها الشعب السوري بقدر مشروعها الطائفي على الأراضي العربية، وتعلل روسيا زيادة حضورها العسكري في البحر المتوسط للدول العظمى بضرورة تنفيذ مهمات دفاعية ومع ذلك فإن انتشار الأسطول الروسي إشارة سياسية واضحة ودليل لا جدال فيه على اهتمام موسكو البالغ بتطورات الموقف في الشرق الأوسط حتى يكون لها موطئ قدم في البحر المتوسط ذاته".