تفوّق المعلم وتغلبه على التحديات التي يواجهها في الحياة لا يعنيان أنه إنسان خارق وغير عادي، أو أنه يتميز عن أصحاب المهن الأخرى، أو يختلف عن بني جنسه من البشر كأن يكون من ماكينات المصانع أو يتنفس من "رئة حديدية"؛ بل هو روح وعقل وجسد و"عواطف" يتأثر من البيئة المدرسية التي يعمل بها، ومن كل المثيرات في المنظومة البيئية التي يعيش فيها كذلك؛ فمتى ما كانت صحية وراقية دفعته للارتقاء بأدواره مع طلابه وقيادته وميدانه التربوي ومختلف تعاملاته من جهة؛ وليتصبب عرقاً من جبينه الطاهر ليوصل رسالة تربوية سامية، أو يوصل إلى الذهن معلومة صحيحة. وعادة ما يكون المعلمون والمعلمات عرضة لعدد من الضغوط والمؤثرات على مستوى نتاجهم وعطائهم، وتعاملهم مع الظروف المحيطة بهم، في وضع لم يختاروه، ولكنه فرض عليهم من مؤثر خارجي يملك نوعًا من القوة أو السلطة، والتي يجدون أنفسهم معها غير قادرين على التصويب أو إرجاع الأمور إلى نصابها، أو أنهم ملزمون باتخاذ أو اتباع أسلوب معين بغض النظر عن درجة قناعتهم أو رضاهم به، الأمر الذي يشكل لديهم نوعًا من الضغوط التي إذا لم يحسن متخذو القرار وراسمو السياسة التعليمية التعامل معها فقد تؤدي إلى نتائج عكسية، وقد تكون مدمرة إذا ما انعكست على شخصيات المعلمين والمعلمات وسلوكياتهم، وتعاملهم مع قائديهم، وزملائهم وطلبتهم وأفراد أسرهم. ومن المنعطف نفسه، كثيرٌ من المعلمين يصلون إلى حالة شعورهم بعدم الارتياح والاستقرار والرضا الوظيفي المستحق، والتي أوصلت بعضهم إلى "الاحتراق" النفسي والشعور بالكآبة والاحباط أحياناً، أثبتتها الدراسات ومقاييس الاحتراق النفسي المعروفة ل"سلاش جاكسون" والتي طبقها العديد من التربويين والمهتمين بالدراسات النفسية والاجتماعية واستخدمها الباحثون كمقياس في معرفة الضغوط ومتعلقاتها فما يخص المعلم والتعليم، مثل دراسة "فيلدنج وجل" وكانت عن ضغوط مهنة التدريس والاحتراق النفسي فأوضحت أن المعلمات أكثر من المعلمين إحساسًا بضغوط المهنة وأكثر احتراقًا نفسيًا وأن المعلمين من الجنسين ذوي الاتجاهات السالبة نحو الطلاب هم الأكثر معاناة من ضغوط المهنة والأكثر احتراقًا نفسيًا. وفي دراسة أخرى ل"هيبس ومالبن" أوضحت نتائجها أن المعلمين الأكثر إحساسًا بضغوط العمل هم الأكثر احتراقًا نفسيًا بأبعاد الإنهاك العصبي، وتبلد المشاعر، ونقص الإنجازات، وتسلط القرارات والقيادات التربوية، ودراسات كثيرة تثبت أن الضغوط النفسية نار ملتهبة تحرق المعلم الإنسان!. والبدهية لدي، أن الحالة النفسية التي قد تهيمن بمعلمنا اليوم هي حقوقه بدءاً من تقديره الوظيفي الكافي – ومن وجهة نظري الأهم – في منحه المساحة الكافية للإبداع التربوي، والأخذ بمشاركته في صياغة واتخاذ القرارات التربوية والتعليمية من تكوين المناهج والمقررات الدراسية والقياس والتقويم، مروراً بتأمين متطلباته من الاستقرار الاجتماعي، وإبعاده عن الضغوط النفسية وتفهمها، والظلم الإداري ومتابعته، وتكريم "جميع" المتميزين بدلاً من إهمالهم ومحاسبة "المقصرين" مهما كان عددهم، وجلب الخدمات لهم من احتياجات ومتطلبات يفتقدونها داخل المدرسة أو خارجها كتأهيل البنية المدرسية، تقليص نصاب الحصص وعدد الطلاب داخل الفصل ليتمكنوا من القيام بواجبهم وتحقيق رسالتهم، وكذلك التأمين الصحي، والأندية الرياضية، والإعلام التربوي "المتابع" لإنجازاتهم لا الملمع لمديري التعليم وللوزارة ومسؤوليها، و"مقترح" يخرج من صلب المقال أن تبادر شؤون المعلمين والارشاد والتوجيه بالتمكين الوقائي كالاهتمام بالإرشاد النفسي للمعلمين في المدارس، وتدريبهم على كيفية مواجهة الضغوط المختلفة والتغلب عليها!. وأمام هذه الحالة التي تحدق ببعض أو كثير من المعلمين والمعلمات، وتلك الضغوط التي تحيط بهم، فإن المعلم السعودي للأمانة اليوم ليس بحاجة لشعارات طنانة أو تعاميم "ورقية" أو حتى شهادات شكر واحتفالات.. بل يحتاج لحلول تقض مضجعه ومستقبل وطن وأجيال بدءاً من تطويره والاهتمام به، فهو الأولى بالتطوير والأهم، فتطوير لا يعطي المعلم حقه يعتبر مبتوراً!. ويبقى "المعلم" نفسه، ومنه أجزم بأنه لن يفرض احتراماً وتقديراً له ولوظيفته ورسالته السامية سواه، فعندما ينتمي للمجتمع الذي يعمل فيه، فإنه يؤكد التزامه، ويكون واضح المعالم بإدراكه لحاجات ذلك المجتمع، وسيكون حتماً قادراً على الوفاء بمتطلباته وتحقيق غاياته، فالتوافق الفكري والبيئي والاجتماعي من أهم السبل الكافية الكفيلة بتنمية التعليم، وإذا أراد المعلمون الاحترام والتبجيل الحقيقي فعليهم أن يقابلوا ذلك بالوفاء برسالتهم بكل تفان، والإحساس بالمسؤولية الواقعة على عاتقهم، فالمستويات المستحقة ليست هي فقط من أهدر حقوق المعلم، وحتى إن توفرت هذه المستويات، فسنعود للمربع الأول إن لم يؤمن المعلم برسالته الحقيقية مهما كانت المعوقات. باختصار؛ معلمونا الكرام محتاجون لوقفات صادقة، وخطوات جادة تكاملية مخطط لها لكل المبادرات الجميلة نحو المعلم بكل صدق وشفافية من وزارة التعليم والإعلام والمجتمع بأسره من أجل مكانته التي تليق به لتتوافق مع أهمية رسالته ودوره البنائي لمستقبل أبنائنا ووطننا. [email protected]