فصل الخريف من بين فصول السنة مختلف في رؤيته، ومتقلب في طقوسه، ومثير في تداعياته على كل مكان، لكنه أجمل الفصول في منح الإنسان قدرة على التذكّر والتفكير والتأمل والإلهام؛ فلا يمكن أن تتعرى الأشجار، وتتساقط الأوراق، ويصفّر أو يحمّر ما تبقى منها، ويتساوى الليل والنهار، وتهاجر الطيور، وتهب الرياح، وتنخفض درجات الحرارة، وتجتمع السحب في اختبار المطر الأول بعد انقطاع طويل.. لا يمكن أن يحدث كل ذلك بلا إحساس، أو شعور لدى الإنسان أن ما حوله يتغيّر، أو على الأقل تكون الحياة مختلفة، ومتلونة، ولا تستقيم على حال. ومع ذلك يمضي الإنسان إلى حيث يكون قدره، وقدرته، ومصلحته، ويستجيب للمتغيرات، والمغريات، ولكنه ثابت على مبادئه، وقيمه، ومتوازن في علاقاته، ويحفظ مكانته، وينحني قدر الإمكان أمام العواصف، ولا يسقط مهما كانت عاتية، أو مخيفة؛ لأنه قرّر أن يمضي في طريقه، ويسابق الزمن في الوصول إلى غايته، وطموحه، وأمنياته. الحياة اليوم ليست سهلة، أو نتخيلها كذلك؛ فهي تحتاج إلى صبر وعمل، وقبل ذلك رؤية نهتدي بها عند مفترق الطرقات، وحوالك الأزمات، وننهض في كل مرة نختبر فيها قدراتنا في الوصول، بلا يأس، أو تأزيم، أو تردد، وهي مهمة تحتاج في كل تفاصيلها إلى كثير من الحكمة والتعقّل، والهدوء الذي يحبس أنفاس الأمل نحو مستقبل أكثر إشراقاً، وفرحاً، وحباً في الحياة التي نصنع جمالها بأنفسنا، وصدق مشاعرنا. حدائق الخريف التي صوّرها ورسمها عظماء الفن التشكيلي دافنشي، وبيكاسو، وفان جوخ، وأوجست، حيث الألوان المتعددة، والأشجار الواقفة بلا أوراق تستر عورتها أمام قسوة الحياة والزمن، والممرات التي تدلنا على بوابات الخروج لنعيش واقعنا، ونستظل بغيوم السماء التي تمنحنا المطر العابر قبل أن تعيقنا ثلوج الشتاء عن الوصول. هذه الصور في الخريف توحي لنا أن الإنسان يختصر ملامح حياته مع التغيير؛ حين يرى طبيعة ذاته تتجدد، وتتطهر من عوالق الزمن، ويمضي رغم خريف العمر إلى ربيعه الزاهي بمعدنه، ويستلهم من التجارب عبراً، ودروساً، ولا ينفصل عن واقعه، أو يستسلم له بسهولة. نعيش هذه الأيام فصل الخريف مع أنفسنا قبل أن ندركه من حولنا، ونفكّر في سنة التغيير التي تمنحنا علاقة وجدانية في التفكير، والمراجعة، والمحاسبة أحياناً، ونخلص إلى أن القادم أفضل إذا صدقت النوايا، وأعدنا الأحلام إلى مستودع الواقع، وطوّرنا الإمكانات، وسرنا على بركة الله وتوفيقه في تقديم كل ما لدينا من جهد، وعطاء، وصناعة المواقف والفرص التي تمنحنا قدرة على البقاء مع الآخر. الواقع اليوم مختلف، ومتعدد الوجوه، والمسميات، ومتجذر إلى حدٍ يصعب معه التغيير، ولكن علينا أن نغيّره، فلا خيار أمامنا سوى ذلك، حتى لو كان المستحيل يبعث اليأس؛ لأن ما هو مطلوب أكثر مما هو معروض في سوق العمل، وبالتالي علينا أن نقرر وجهتنا مع الحياة. كثيرة هي الأحاديث اليوم عن التغيير الذي ينتظرنا في المستقبل، وكيف سيكون، وكيف سنتعامل معه، وكيف نحقق معه فرصة الوجود، والخروج إلى فضاء أوسع وأجمل، وهي أسئلة كامنة في النفس، ويتلقاها الجميع من ردود الفعل التي تتسابق نحو البحث عن حلول آمنة، محفزة، وهي في الواقع تمت الإجابة عنها في أول اختبار مع الحياة؛ حين ارتضينا التغيير سبيلاً للنهوض، ومعاشرة الواقع بكثير من الصبر والعمل.. والتفاؤل أيضاً؛ لأن أشجار الخريف حتى لو تعرّت لا تسقط، بل تنتظر الربيع ليعيد إليها ألوانها الزاهية..