تخيل عزيزي القارئ سلاحا تطلقه على شيء فيتحول الشيء إلى ضوء مثل البرق! ليس هذا السلاح بمستحيل -من حيث المبدأ- في عالم الفيزياء، وذلك بسبب وجود: المادة المضادة. مثلا، الإلكترون -وهو الجسيم الأولي المسؤول عن الكهرباء- له جسيم مضاد نسميه: بوزيترون. والعجيب في الموضوع هو أنه إذا اتصل الإلكترون بالبوزيترون؛ فإنهما يفْنيَان ويتحولان إلى ضوء! ونحن نرى هذه الظاهرة باستمرار في معامل الفيزياء. بل إنها أصبحت تستخدم في المستشفيات للكشف عن الأورام، وقد تسهم في علاجها. عموما، من أفضال الله علينا أن المادة المضادة نادرة جدا في الكون، ولا توجد أجرام سماوية -حسب الدليل العلمي- مُكوَّنة من مادة مضادة! وإلا لكنا نعيش في أرض مهددة بالفناء في أي لحظة! ولكان الفلكيون يرون بروقا كونية كل حين وآخر نتيجة لفناء المادة عندما تتصل بالمادة المضادة، كاصطدام نجم بنجم مضاد! علما بأن الطاقة التي قد تنتج عن مثل هذه الظاهرة هي طاقة ذات أثر هائل التدمير! المادة المضادة هي مثال على الارتباط الوثيق بين النظرية العلمية والتجربة في عالم الفيزياء. فعندما توصل الفيزيائي البريطاني "بول ديراك" إلى معادلة تصف الجسيمات الأولية كالإلكترون، وذلك في عام 1928م، تفاجأ بأن المعادلة تتنبأ بوجود "قرين" لكل جسيم أولي. هذا القرين يحمل الخصائص نفسها التي يحملها الجسيم الأصل (أو المادة)، غير أنه يعاكسه في الشحنة، ولذلك سمي بالمادة المضادة. بعد هذا التنبؤ بأربع سنوات، تم اكتشاف البوزيترون. ومنذ ذلك الحين توالت الاكتشافات لمواد مضادة أخرى. بل إن بعض المعامل تمكنت من إنتاج مواد مضادة صناعيا، كالبروتون المضاد (والبروتون هو أحد مكونات نواة الذرة)، وذرة الهيدروجين المضادة (أنتجت في معمل سيرن بسويسرا). ولكن "تصنيع" مادة مضادة وحفظها هو من أعقد الأمور؛ إلى الحد الذي جعل ناسا تقدر قيمة "واحد جرام" من الهيدروجين المضاد ب 62 تريليون (ألف مليار) دولار! عموما، المادة المضادة تنشأ طبيعيا في بعض التحللات النووية. لكن لا توجد في الأرض صخرة (أو شيء) مكونة من مادة مضادة وإلا لحصل الفناء -بالاتصال مع المادة العادية- والتحوُّل إلى الضوء. وهذا يجرنا لأحد الأسئلة التي تحير المجتمع البحثي الفيزيائي اليوم والسؤال هو: لماذا لا توجد مادة مضادة في الكون بوفرة؟ أو من منظور آخر: لماذا توجد مادة أصلا؟ سبب الحيرة هو أن الافتراض السائد -المدعوم بشكل غير مباشر من الرصد- هو أنه في بدايات الكون كانت هناك مادة ومادة مضادة بكميات متساوية. ثم حصل فناء لمعظم المادة والمادة المضادة، ومن ثم بقي جزء ضئيل جدا من المادة وهي ما تشكل كوننا اليوم، بما فيه من نجوم ومجرات وكواكب وبشر! إذن يبدو أنه أثناء تطور الكون، حصلت تفاعلات وتحلُّلات غير عادية وتسببت في حدوث تفاوت ضئيل جدا بين كمية المادة والمادة المضادة. وبالحساب، فإن هذا التفاوت يقدر بأنه لكل 10 مليارات زوج من المادة والمادة المضادة، كانت هناك مادة عادية واحدة حرة. ثم فَنَت الأزواج إلى ضوء، وبقيت المادة الحرة العادية ليتكون منها كوننا هذا. ما السبب والآلية وراء ذلك؟ توجد الكثير من الفرضيات ولكن ما زال البحث العلمي مستمرا! أخيرا، من كان يتصور أن المادة المضادة -بعد عقود من اكتشافها- سوف تخدم الإنسان في العلاج وغيره؟ ومن يتخيل ما هي التطبيقات المستقبلية لها؟ اكتشاف المادة المضادة واستخداماتها هي بحق إحدى حسنات فيزياء الجسيمات على الإنسانية، وحقا إن رحلة الإنسان لفهم الطبيعة والكون هي رحلة مليئة بالمفاجآت!