الوكالة الدولية للطاقة الذرية تتوقع اتفاقا وشيكا مع إيران    الحارس الفرنسي باتويي رسميًا إلى الهلال    إحباط تهريب (65,650) قرصًا خاضعًا لتنظيم التداول الطبي بمنطقة جازان    "الأخضر تحت 20 عاماً" يتغلب على تشيلي ودياً استعداداً لكأس العالم    الدرعية يبدأ Yelo بهوية جديدة    مهرجان ولي العهد بالطائف .. الهجن السعودية تسيطر على "الجذاع"    انطلاق أولى ورش عمل مبادرة "سيف" بمشاركة أكثر من 40 جمعية من مختلف مناطق المملكة    الجنيه الإسترليني يرتفع مقابل الدولار الأمريكي وينخفض مقابل اليورو    منسوبو أسمنت الجنوبية يتفاعلون مع حملة ولي العهد للتبرع بالدم    ‏أمير جازان يستقبل رئيس وأعضاء مجلس الجمعيات الأهلية بالمنطقة    وزير الحج والعمرة يبدأ زيارة رسمية لتركيا    الذهب عند قمة جديدة بدعم من توقعات خفض الفائدة الأمريكية    تونس تتأهل لكأس العالم 2026 بفوزها على غينيا الاستوائية    قنصل عام فرنسا بجدة: 160 شركة فرنسية تعمل في السوق السعودي    أمير دولة الكويت يستقبل سمو الأمير تركي بن محمد بن فهد    التحالف الإسلامي يطلق مبادرة توعوية لمواجهة الخطاب المحرّض على الإرهاب    عقارات الدولة تطرح 11 فرصة استثمارية بمددٍ تصل 25 سنة    مركز الملك سلمان للإغاثة يوقّع اتفاقية تعاون مشترك لتأهيل آبار منطقة دوما بريف دمشق    فضيلة المستشار الشرعي بجازان: "التماسك بين الشعب والقيادة يثمر في استقرار وطن آمن"    جامعة حائل تحقق إنجازًا علميًا جديدًا في تصنيف "Nature Index 2025"    7 توصيات في ختام المؤتمر الدولي ال5 لمستجدات أمراض السكر والسمنة بالخبر    مجلس إدارة جمعية «كبدك» يعقد اجتماعه ال27    صندوق الاستثمارات يوقع مذكرة تفاهم مع ماكواري لتعزيز الاستثمار في قطاعات رئيسية بالسعودية    وزراء خارجية اللجنة العربية الإسلامية بشأن غزة يعربون عن رفضهم لتصريحات إسرائيل بشأن تهجير الشعب الفلسطيني    إسبانيا تُعلن تسعة إجراءات تهدف لوقف "الإبادة في غزة"    أبرز التوقعات المناخية على السعودية خلال خريف 2025    أمانة الشرقية تفعل اليوم الدولي للعمل الخيري بمشاركة عدد من الجمعيات    محافظ عفيف يدشن مبادرة نأتي اليك    إطلاق المرحلة الثالثة من مشروع "مجتمع الذوق" بالخبر    نمو الأنشطة غير النفطية بنسبة 4.6% في الربع الثاني من 2025    جمعية حرف التعليمية تنفذ فعالية الرصد الفلكي للخسوف الكلي للقمر بجازان    المرور يحذر من سحب أو حمل أشياء عبر الدراجات    حين يتحدث النص    مراقبون توقّعوا أن تكون الزيارة أهم حدث دبلوماسي في 2025 ترمب يدعو ولي العهد إلى زيارة واشنطن.. نوفمبر القادم    الأميرة أضواء بنت فهد تتسلم جائزة الأميرة صيتة بنت عبدالعزيز «امتنان» للعمل الاجتماعي    بنجلادش تكافح موجة متصاعدة من حمى الضنك وحمى شيكونجونيا    الجوازات تواصل استقبال ضيوف الرحمن    يعتمد على تقنيات إنترنت الأشياء.. التعليم: بدء المرحلة الأخيرة للعمل بنظام «حضوري»    عبر أكبر هجوم جوي منذ بداية الحرب.. روسيا تستهدف مواقع في كييف    الأخضر السعودي يختتم استعداده لمواجهة التشيك    بعد أول خسارة في التصفيات.. ناغلسمان يعد بتغييرات على تشكيلة ألمانيا    نزع السلاح شرط الاحتلال.. وحماس تربطه بقيام الدولة الفلسطينية.. غزة على مفترق مسار التفاوض لإنهاء الحرب    راغب علامة يلاحق «المسيئين» بمواقع التواصل    «صوت هند رجب» يفوز بالأسد الفضي في مهرجان البندقية    «الإعلام» : استدعاء 5 منشآت لدعوتها معلنين من الخارج    السمكة العملاقة    وزير الحرس الوطني يناقش مستجدات توطين الصناعات العسكرية    تحت رعاية وزير الداخلية.. تخريج الدورة التأهيلية لأعمال قطاع الأمن العام    النسور.. حماة البيئة    صحن الطواف والهندسة الذكية    كيف تميز بين النصيحة المنقذة والمدمرة؟    932.8 مليار ريال قروضاً مصرفية    السعودية تحمي النسور ب«عزل خطوط الكهرباء»    رقائق البطاطس تنقذ امرأة من السرطان    «الصحة» تستكمل فحص الطلاب المستجدين    إعادة السمع لطفلة بعمر خمس سنوات    نائب أمير الشرقية يستقبل مدير شرطة المنطقة ويطلع على التقرير الإحصائي السنوي    حين تتحول المواساة إلى مأساة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الْعَودةُ إلى سنَّار... الشّعرُ قِنَاعًا للْهُويَّة (2-2)
نشر في المدينة يوم 04 - 01 - 2012


نشيد الليل
ينطوي نشيد الليل على مجاز رؤية متصلة بختام النشيد السابق (نشيد المدينة)؛ لهذا يفتتح الشاعر نشيد الليل بذكر المدينة، لكن المدينة هنا هي جزء من الليل فهي مكان الحلم الذي يراه الشاعر في الليل.
ويمكننا القول إن نشيد الليل هو امتداد حلمي لنشيد المدينة. فالشاعر يستخدم الإيهام المتصل بعالم البحر وبدايات التكوين؛ بطريقة يمكن أن تربك القارئ في فك دلالة الوضوح الصاعدة نحو الرؤيا في الأناشيد، وبهذا المعنى فإن إحالات نشيد الليل نسق منعكس لإحالات نشيد البحر، وبما أن نص عبدالحي هو نص إحالات بامتياز؛ سنجد أن إحالات نشيد الليل هي رموز جنينية لعالم مكتمل في اليقظة يعود إلى بداياته عبر الحلم، وهي أيضًا رموز يحاول الشاعر من خلالها تأويل الاندماج في تصور الهُوية المكتملة عبر بداياتها الأولى المختزنة في النواة، وهو تأويل يتصل بترميز مركب حاول الشاعر من خلال تجسيد دلالة الهُوية في ذات أسطورية؛ تتصل بالخرافة وتدل على الفرادة في الوقت عينه؛ حيث يستدعي الشاعر الكائن الخرافي (السمندل) من التراث العربي للإشارة إلى أُقنوم الهوية المركب للسلطنة الزرقاء.
وبعد أن قال الشاعر في ختام نشيد المدينة بعد دخوله إلى سنار:
(ونِمْتُ
مِثْلَمَا يَنَامُ في الحَصَى المَبْلُولِ طِفْلُ المَاءْ........) (نشيد المدينة)
يبدأ نشيد الليل بهذا المقطع:
(وفَتَحَتْ ذِرَاعَها مَدِيِنَتي وحُضْنَها الرَّغِيدْ)
في نشيد الليل تذوب روح الشاعر في حلمه، حيث تنفتح على رؤاه بدايات مملكة البراءة والزرقة؛ ذلك أن الليل في هذا النص هو حاضن الحلم الذي تتجلى من خلاله علامات الرموز الأولى المهيأة للنضج الأبديّ في أفق الشمس الزرقاء. والتي يتأمل من خلالها الشاعر حالة الأُقنوم الذي سيجسّد بتكوينه المركب بداية جديدة لتكوين عناصر مملكة البراءة، والسمندل هو الذات التي تستقطب تلك العناصر.
(ويَعْبُرُ السَّمَنْدَلُ الأحْلامَ
في قَمِيصِهِ المَصْنُوعِ مِنْ شَرَارْ)
(في اللّيْلِ حَيْثُ الثَّمَرُ الأحْمَرُ
والبُرْعُمُ، والزَّهْرَةُ في وَحْدَتِهَا الأولَى
مِنْ قَبْلِ أنْ تُعْرَفَ مَا الأشْجَارْ)
ومن خلال نشيد الليل يعود الشاعر مرة أخرى إلى جدلية الدم والماء (ماء الليل)، (وليل الدماء) التي أشار إليها الشاعر في النشيد السابق (نشيد المدينة)، فالماء يسبق الدم، حيث الماء هيولى، والدم تكوين، الماء عدم والدم وجود؛ وهي جدلية؛ تشكل باستمرار إطار الكينونة المتخلقة من الغياب إلى الحضور، ومن الصمت إلى اللغة، جدلية الماء والدم تستدعي التحول من العدم إلى الوجود، أو الظهور عبر مصهر النار المتصل بعلامة الطيور الدالة على الوضوح في المعجم الشعري لهذا النص. ويأتي الصقر في هذا النشيد علامة على بداية التكوين المتصل بالنهاية في مجاز الليل فبين اللحم والعظام يكون الدم علامة الحياة:
(في اللَّيْلِ يَنْتَاشُ بَقَايَا خُرْقَةِ اللَّحْمِ على العِظَاِم
صَقْرُ اللَّيِلِ ثُمَّ تَصْعَدُ الدِّمَاءْ
غَمَامَةً فِضِّيَّةً فَوْقَ حُدُودِ المَاءْ)
في هذا النشيد؛ تعكس دلالة الرموز عبر استعارة الليل رؤية للنهاية المكتملة للهوية في أصل العناصر الأولى، من خلال استعادة حلمية، فهي اكتمال قائم ومركوز في أصل البدايات، وهذه الاستعادة الرؤيوية تتكشف عن سياق نقيض لسردية البدايات في نشيد البحر.
هكذا نجد في نشيد الليل امتدادًا لنشيد المدينة، ورؤية نقيضة لنشيد البحر؛ فالنشيد / اللغة يعود لشكله القديم مع انبثاق الصورة الأولى من البحر
(وتَتَلوَّى الصُّورَةُ الأولَى
وتَطْفُو في مِيَاه الصَّمْتِ
حَيْثُ يَرْجِعُ النَّشِيدْ
لِشَكْلِهِ القَدِيمِ
قَبْلَ أنْ يُسَمِّي أو يُسَمَّى في تَجَلِّي ذَاتِهِ الفَرِيِدْ)
نشيد الحلم
يفتتح الشاعر نشيد الحلم بصورة الصقر الذي اختتم به نشيد الليل تمهيدًا لرؤيا / بشارة يراها الشاعر في آخر الليل؛ لينتظر بعدها شمس القبول، ونهاية الليل التي تسفر عن حلم؛ تقوم دلالة على قدوم الفجر الذي يستدعي غياب عالم الظلام وكائناته:
(الصَّقْرُ عَادَ لِلجَّبَلْ.....
واهْتَزَّتِ النَّخْلَةُ في رشَاقَةٍ وفَوْقَهَا بُرْجُ النُّجُومِ المُكْتَمِلْ
يَجْنَحُ لِلأفُوُلْ
كَمَلِكٍ قَتِيلْ
ورَجَعَ السَّبْعُ إلى عَرِينِه، ونَزَلَ الجَّامُوسُ لِلمِيَاهْ)
في هذا النشيد يستعيد عبدالحي رؤى البحر المنطفئة، الرامزة إلى الغموض، والعتمة؛ ليظهر بعدها الطير مرة أخرى في براري الحلم علامة على الرؤيا وبروز عوالم متصلة بالكشف، وبالرغم من أن الصوت الفردي يناسب فضاء الحلم؛ فإن الشاعر يختبر مرة أخرى رؤاه في ضوء إشارات نشيد البحر ويستدعي بعض إحالاته:
(ولَمْ يَزَلْ طَيْرُ دَمِي يَصِيحْ
.....................
ويَضْرِبُ المَوْجُ بَرَارِي حُلُمِي
وتَحْمِلُ الرِّيَاحْ
لِي مَرَّةً ثَانِيَةً رَائِحَةَ البَّحْرِ ونَقْشًا مِنْ نُقُوشِ لُغَةٍ مَيِّتَةٍ عَلى الْجِرَاحْ)
ولأن تأويل البحر في نص عبدالحي يستدعي المتاهة؛ فإن الشاعر يتساءل عن مغزى تلك الرؤى المستعادة في الحلم من نشيد البحر، ومن خلال هذه التساؤلات التي تتأول احتمالاتها بين الوعي والغموض، والحضور والغياب على امتداد مقاطع النشيد تتضح عوالم الحلم من خلال الرموز، فبعد أن يستعيد الشاعر ذلك المشهد من عالم البحر في نشيد الحلم يقول:
(أدَعْوَةٌ إلى سَفَرْ
أمْ عَوْدَةٌ إلى ظَلاَمِ الأرْضِ والشَّجَرْ
أمْ صَوْتُ بُشْرَى غَامِضٍ يَرْجُفُ كَالسِّحْلِيَّةِ الخَضْرَاءِ تَحْتَ خَشَبَاتِ البَابْ
يَبْعَثُهُ مِنْ آخِرِ الضَّمِيرِ مَرَّةً عُوَاءُ آخِرِ الذِّئَابْ
في طَرَفِ الصَّحْرَاءِ، مَرَّةً رَنِينُ مَعْدَنٍ في الصَّمْتْ
ومَرَّةً هَمْسُ عَصَافِيرِ الثِّمَارِ حِينَمَا يَلْمَسُهَا بِالَّلهَبِ الأزْرَقِ جِنِيُّ القَمَرْ)
في هذا المقطع تبدو علامات الرحلة في الحلم عبر رموز الهوية الكامنة في أقنومها؛ فالذئاب التي ترمز إلى الغابة يتصادى عويلها في الصحراء؛ برنين الذهب في صمت البدايات؛ وهمس الثمار الصيفية الناضجة.
إنه صوت البشارة إذ يتشكل عبر أصوات تلك الرموز بين مختلف الأشكال؛ ليتحول إلى صوت باب الجبل الدال على المملكة الزرقاء حيث يشير الشاعر إلى هذا المعنى بقوله:
(أمْ صُوْتُ بَابِ جَبَلٍ يَفْتَحُهُ في آخِرِ اللَّيْلِ وقَبْلَ أوَّلِ الصَّبَاحِ
المَلِكُ السَّاهِرُ في حَدِيقَةِ الوَرْدِ البِدَائِيَّةِ في إشْرَاقَهِ الجِرَاحْ
يَمُدُ لِي يَدَيْهِ
يَقُودُنِي عَبْرَ رُؤى عَيْنَيَهِ
وعَبْرَ أدْغَالِ لَيَالِي ذَاتِكِ القَدِيِمَهْ
لِلذَّهَبِ الكامِنِ في صُخُورِكِ العظَيِمَهْ)
وهكذا يقع الشاعر على صورته الأولى المفضية للذاكرة الأولى؛ ليحتمي بها من الضياع في المتاهة، فالرموز التي يوردها الشاعر في رحلته عبر الحلم تعيد باستمرار ملامح ذات تاريخية قديمة في أشكال: الزهرة، والثعبان المقدس، تمثال العاج، والنقوش السوداء، وهي رموز تاريخية تشكلت في رؤى الشاعر كبشارة للرؤيا الكبرى في المستقبل.
ويتحول صوت البشرى الغامض إلى أصوات أخرى أكثر وضوحًا، صوت باب الجبل الذي يرمز إلى صدى الكينونة في التاريخ (الملك / المملكة الزرقاء) ثم صوت الوطن المسموع في صوت المرأة / الوطن التي تفتح باب الجبل.
وبعد أن يرى الشاعر تلك الرموز ويسمع الأصوات يتساءل:
(حُلُمٌ مَا أُبْصِرُ أمْ وَهْمٌ
أمْ حَقٌ يَتَجَلَّى في الرُّؤيَا ؟)
وهذا التساؤل سيصاحب الشاعر خلال هذا النشيد في حلمه الطويل.
فالمرأة / الوطن حين تفتح أبواب الجبل الصامت، وتستعيد الضوء عبر قناديل العاج؛ تنام في عتمة التاريخ؛ لتولد مرة أخرى في انبعاث جديد بين الحرير وتتهيأ بحميمية النشوة والرنين جسدًا ناضجًا بين يدي شيخ يعرف خمر الله وخمر الناس:
(أسَمَعُ صَوْتَ امْرَأةٍ تَفْتحُ بَابَ الجَّبَلِ الصَّامِتِ تَأتِي بِقَنَادِيِلِ العَاجِ
إلى دَرَجَاتِ الهَيْكَلِ والمَذْبَحِ ثُمَّ تَنَامُ....
لِتُولَدَ بَيْنَ الحُرْحُرِ والأجْرَاسْ
شَفَةً، خَمْرًا، قِيثَارًا
جَسَدًا يَنْضَجُ بَيْنَ ذِرَاعَيْ شَيْخْ)
ويتحول الصوت إلى لغة في شفاه من ذهب:
(لُغَةً فَوْقَ شِفَاهٍ مِنْ ذَهَبٍ
أمْ نُورٌ في شَجَرِ الحُلُمِ المُزْهِرِ
عَدَدَ حُدُودِ الذَّاكِرَةِ الكُبْرَى
الذَّاكِرَةِ الأُولَى)
هكذا تتحول الأصوات إلى رموز واضحة في رؤية الشاعر من التاريخ إلى الوطن؛ لتجد معناها الكامل في ثمرة العلاقة بين المرأة والشيخ طفلًا يجسده صوت الشاعر المعبر عن صوت شعبه:
(أمْ صُوْتِي يَتَكَوَّرُ طِفْلًا
كَيْ يُوْلَدَ في عَتَبَاتِ اللُّغَةِ الزَّرْقَاءْ)
بيد أن الشاعر يرى الحلم مكتملًا من وراء أفق بعيد، فصوته الوليد لا يزال متكورًا يحمل في ذاته أطيافًا غامضة؛ لأجيال في الغيب البعيد؛ حيث يكتمل النشيد ويتجسد الصوت:
(وتجيءُ أشْبَاحٌ مُقَنَّعَةٌ لِتَرْقُصَ حُرةً زَمَنًا،على جَسَدي الذي يَمْتَدُ أدْغَالًا، سُهُوبًا تَمْرَحُ الأفْيَالُ، تَسْتَرْخِي التَّماسِيحُ، الطُّيورُ تَهُبُّ مِثْلَ غَمَامةٍ، والنَّحْلُ مِرْوَحَةٌ يغنّي وهو يَعْسِلُ في تَجَاوِيفِ الجِبَالِ، وتَسْتَدِيرُ مَدِيَنةً زَرْقَاء في جَسَدِي، ويَبْدَأُ صَوْتُها، صَوْتِي، يُجَسِّدُ صَوْتَ شَعْبي، صَوْتَ مَوْتَاي الطَّلِيقْ)
لقد ظل عبدالحي يطارد صوته ورمزه في الحلم؛ حتى عثر على معناه في المقطع السابق؛ ولهذا يقول الشاعر في نهاية نشيد الحلم:
(مَاذَا أكُونُ بِغَيْرِ هذا الصَّوْتِ؛ هذا الرَّمْزِ هذا العِبْءِ يَخْلُقُنِي وأخْلُقُهُ)
وإذ يكتمل الحلم أخيرًا بعد مَتاهٍ داخل الليل؛ ينام الشاعر مرتاحًا في انتظار الشمس:
(وحِيْنمَا يَجْنَحُ آخِرُ النُّجُومِ للأُفُولْ
ويَرْجِعُ المَوْتَى إلى المَخَابِئِ القَدِيِمَهْ
أنَامُ في انْتِظَارْ
آلِهَةِ الشَّمْسِ وقَدْ أُتْرِعَ قَلْبِي الْحُبُّ والقَبُولْ).
نشيد الصبح
سنلاحظ أن إيقاع هذا النشيد مختلفٌ عن بقية الأناشيد، في سرعته التي توازي اهتزاز الفرح والقبول، وما يتصل بذلك من خفة ونشوة.
يفتتح الشاعر هذا النشيد مستقبلًا شمس (سنار) بالترحاب والحفاوة، فالصبح هو أفق القبول الذي تتجلى فيه شمس الهوية، ويتمثل الشاعر من خلاله حقيقة الرؤيا عبر يقين خرج به من متاهة الغياب.
وإذا كان الشاعر قد أخلد إلى النوم في النشيد السابق؛ بعد أن رأى الحلم متجليًّا لينتظره مع الشمس؛ فإن القبول هنا علامة الرضا والاكتمال:
(مَرْحَى تُطِلُّ الشَّمْسُ هذا الصُّبْحَ مِنْ أُفُقِ القَبُولْ
لُغَةً على جَسَدِ المِيَاهْ)
هكذا يكتمل الصوت عبر اللغة ويتصل الضوء بالأصول البعيدة، في ليل الجذور؛ لتبدو سنارُ شمسًا تسطع من جديد:
(اليَوْمَ يَا سِنَّارُ أقْبَلُ فِيكِ أيَّامِي بِمَا فِيِهَا مِنَ العُشْبِ الطُّفَيْليِّ الذي يَهْتَزُّ تَحْتَ غُصُونِ أشْجَارِ البَرِيقْ)
وبالرغم من أن العشب الطفيلي الذي ذكره الشاعر هنا كدالة على هوامش وبقايا عالقة، أو زائدة تحت أشجار البريق، إلا أن هناك ما يمكن أن يكون دلالة مضمرة حيال مكونات أخرى عالقة، وحائلة دون صفاء الهوية.
بيد أن دالة القبول هنا المعبر عنها باللازمة الزمانية (اليوم أقبل....) ربما كانت دالة على معنى ظلّ عسيرًا على القبول في الذاكرة العربية التقليدية؛ ذلك أن تمثل عبدالحي وقبوله ورضاه بهويته التي ضاع عنها زمنًا؛ ليقبل بها من خلال أُقنومها المزدوج (العروبة والزنوجة) كان بمثابة انتهاك جسور لتابو الثقافة الشعبوية العربية التي كانت تتماهى مع مكون واحد (المكون العربي)، كمرجعية عرقية ولغوية، وتنكر المكوِّن الزنجي الذي ظل بمثابة التابو في سرديات الثقافة الشعبوية العربية؛ ولهذا فإن إشارات القبول التي تتكرر في نشيد الصبح تحيل بصورة من الصور إلى تجاوز عبدالحي لذلك التابو المفروض على ذاكرة الثقافة العربية الشعبوية لشمال السودان. في هذا النشيد يضج بالوضوح كثمرة للرؤيا، ويتأمل الشاعر ما يتدفق من ضوء شمس الرؤيا؛ ليملأ به الحواس وهو امتلاء يقوم على تذويب وتشذيب بقايا العتمة؛ ليستعيد الشاعر صفاء اللغة في الغناء:
(وأقُولُ: يَا شَمْسَ القَبُولِ تَوَهَّجِي في القَلْبِ
صَفِّيِني وصَفِّي مِنْ غُبَارٍ دَاكِنٍ:
لُغَتِي غِنَائِي)
ويستمر الشاعر في توصيف العناصر المزدوجة للأُقنوم المركب في سنار الجديدة:
(سِنَّارُ
تُسْفِرُ فِي
بِلاَدِ الصَّحْوِ جُرْحًا
أزْرَقًا، قَوْسًا، حِصَانًا
أسْوَدَ الأعْرَافِ، فَهْدًا قَاِفزًا في
عَتْمَةِ الَّدَّمِ، مَعْدَنًا في الشَّمْسِ، مِئْذَنَةً،
نُجُومًا في عِظَامِ الصَّخْرِ، رُمْحًا فَوْقَ مَقْبَرَةٍ
كِتَابْ)
وإذ يعود الشاعر إلى ذكر سنار صراحة في هذا النشيد الأخير، كما ذكرها في نشيد البحر ناعتًا إيّاها بالمملكة الزرقاء؛ فإن ذلك يستدعي بالضرورة مقابلةً للوضوح؛ تقوم نقيضًا لعالم الغموض والغياب، عالم البحر، ويذكر الطيور ضمن دلالتها الخاصة في هذا النص:
(رَجَعَتْ طُيُورُ البَحْرِ فَجْرًا مِنْ مَسَافَاتِ الغِيَابْ
البَحْرُ يَحْلُمُ وَحْدَهُ أحْلاَمَهُ الخَضْرَاءَ في فَوْضَى العُبَابْ
البَحْرُ إنَّ البَحْرَ فِينَا خُضْرَةٌ
حُلُمٌ هَيوُلَى)
ويختم الشاعر نشيده الأخير في القصيدة باكتمال شمس الهوية / الوطن؛ ليطمئن هذه المرة ليس على رضاه النفسي وتوازنه بعد صراع طويل؛ بل وكذلك على سيرورة المستقبل في أفق الوطن الطالع من شمس الهوية، فالشمس تكررت أربعَ مراتٍ في هذا النشيد.
كما يتجلى في هذا النشيد معنى الوضوح المعبر عنه بأكثر من دلالة، وهو وضوح يتفرع عن الشمس: البريق / الوهج / اللهب / اللمعة / الظهيرة /الصحو / الإسفار/ النقاء. وفي موازاة الضوء تأتي ثيمة اللغة كدلالة على الهُوية، ذلك أنّ الهُوية مسألة لغوية في جذورها كما يقول (جون جوزيف) ف((التفكير في اللغة والهوية يستلزم تحسين فهمنا لماهيتنا)) (3)؛ ولهذا نجد عبدالحي ذكر مفردة اللغة أربعَ مراتٍ تمامًا كمفردة الشمس؛ ما يعني أنّ صورة الهُوية ومعناها يقومان على الرؤية واللغة:
(الشَّمْسُ تَسْبَحُ في نَقَاءِ حُضُورِهَا، وعلى غُصُونِ القَّلْبِ عَائِلَةُ الطُّيُورِ، ولَمْعَةٌ سِحْرِيَّةٌ في الرِّيِحِ، والأشْيَاءُ تُبْحِرُ في قَدَاسَتِهَا الحَمِيَمهْ
وتَمُوجُ في دَعَةٍ فلا شَيْءٌ نَشَازْ، كُلُّ شَيءٍ مَقْطَعٌ، وإشَارَةٌ تَمْتَدُ مِنْ وَتَرٍ إلى وَتَرٍ على قِيْثَارَةِ الأرْضِ العَظِيمَة).
المعنى الثقافي ل(العودة إلى سنار)
أنّ الهُوية التي تمثلها عبدالحي في شعره كانت في الحقيقة تَمثُّلًا جماليًّا لمكوّن كبير من مكونات الهُوية السودانية، دون أن تكون مستوفية لمشمولات الهوية في الكيان السوداني؛ يفسر ذلك أن الزّنوجة والإفريقانية جاءت في تأويله للهُوية كعنصر في سياق الدلالة على هُويّة الوسط والشمال السوداني، وبطبيعة الحال لم يكن هذا التعريف الشعري يتضمن هُويّات زنجية أخرى صرفة في الجنوب والغرب؛ أي أنّ محمد عبدالحي كان يختبر هُويّة ناقصة، ويعيد تفسيرَ مكوِّنٍ مسكوتٍ عنه في هُويّة سودان الوسط والشمال؛ ما يعني بالضرورة أن الغابة والصحراء كانت تجربة لغوية جسورة واجهت الثقافة الشعبوية العربية في شمال السودان بمكون آخر، كان بمثابة التابو في ما هو معلن من سرديات تلك الثقافة العربية.
لقد نجح عبدالحي في مقاربة هُويّة ما للسودان عبر الشعر، وبعيدًا عن الآيدلوجيا لكن نجاحه هذا ظلّ يدرج الهُويّة الزّنجية للسودان مشروطةً بالاندماج في الهُويّة العربية؛ أي لم يكن هناك حديثٌ عن هُويّة زنجيّة ناجزة، وخالصة في مكوّنات السودان السياسي ضمن رؤيته للأنا السودانية.
كانتِ (العودة إلى سنار) انتهاكًا لأسطورة الهُويّة العربية الصافية في السودان، وتعبيرًا جسّد اعترافًا بالزّنوجة في إطار مشروط بالعروبة ومندمجٍ فيها. إنّ (العودة إلى سنّار) في المعنى الثقافي لدلالتها، حاولت أن تعبر في فضاء ثقافي عربيٍّ عن هُويّة مزدوجة؛ لكن تعبيرها ذاك كان في تأويله الأخير إعادة تعريف بهُويّة ناقصة في بلد ما تزال للزّنوجة فيه هُوية مَحضة، ومتماسكة.
(*) ناقد وشاعر سوداني
(3) كتاب اللغة والهوية صفحة 54 : جون جوزيف، ترجمة عبدالنور خراقي سلسلة عالم المعرفة 2007 الكويت.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.