في مثل هذه الأيام قبل نحو سبع سنوات، رحلتْ عن دنيَاي (شمس) كانت تملأ حياتي دفئاً وحباً وتفاؤلاً، ذلك حين فقدت سيدتي الوالدة طيّب الله ثراها، وأكرمَ مثْواها، وكان فقدُها عليَّ عظيماً، واليوم وأنا أتذكر رحيلَها، يطبقُ على أنفاسي صمتٌ لا أعلم له سرّاً ولا معنى، اليوم.. ولأول مرة منذ أن (نَطقتْ) عبر لساني فطرةُ الكلام.. يخونني النطق، وتتعثر في صدري آهة الإحساس بالحنين! * لماذا؟ هل لأنّ مشاعر الفقد لسيدتي الوالدة قد خَبتْ! * وأردّ على نفسي وأنا أغالبُ دمعةً تتسلل إلى وجنتي: * لا وألف لا، ورغم إيماني المطلق بقضاء الله وقدره، إلا أن بُعدَ والدتي القريب أو قربها البعيد يفيض في خاطري بين آنٍ وآخر، و(اليوم) وبعد مرور أكثر من نصف عقد على رحيلها (أتوسّد) طيفَها الجميلَ كلما أمسيتُ، وأتمتمُ باسمها كلما أصبحتُ.. وأدعو لها بالرحمةِ والرضوان كلما مثلتُ بين يدي الله ربّ العالمين، وأن تبقى معي رُوحاً وإلهاماً وذكرى.. تعانقُ دمعتي متى حزنتُ، وتحتضنُ ابتسامتي متى فرحتُ، وتعزّي قلبي متى نالني من ضَيْم الدنيا نصيب! (2) * قال لي صاحبي وقد انتشى بسماع جزءٍ من ملحمة طفولتي: أعجب منك ولك، إذْ لم تدع سطوةَ الحياة تكسرُ شوكةَ الطموح في طبعك أو تهزمُ إرادة الحياة في وجدانك! * فقلت معلّقاً: أحمدُ الله، أولاً، أن جعل بداية مشوار العمر قاسيةً، كي أتعلّمَ عبره ما لم أعلمْ عن نفسي، وعن دنياي.. وعن الآخرين معي! * ثم أحمدُ الله أن مكنني من البقاء كي أدركَ الفرقَ بين أمسي الذي كان ويومي الذي سيغدو (أمساً)! * وأحمد الله أخيراً، أن بلغّني اليوم الذي أعرفُ فيه معنى الراحة بعد مرارة التعب، واليُسر بعد فتنة العُسر، واللذة بعد شقاء الحرمان! (3) * لبداياتي مع الكلمة قصة تستحق أن تُروى، لكن نطاق هذا الحديث لا يأذن بذلك، وحسبي هنا القول إن عشقي للكتابة بدأ داخل (جدران) دفتر الإنشاء منذ السنة الأولى الثانوية، ثم تسلل بي العشق بعد ذلك في خفر وخوف معاً إلى صفحة داخلية بصحيفة (القصيم) المحتجبة، لتبدأ من هناك (مراهقاتي) الأدبية، ثم (احتجبتُ) عن الكتابة فترة طويلة بسبب ابتعاثي للدراسة في أمريكا، وبعد عودتي منها، استيقظ في خاطري عشقُ الحرف من جديد، فكتبتُ أسبوعياً ولفترةٍ طويلة في مجلة (اليمامة) بتحريض جميل من الصديق محمد الشدي، رئيس تحريرها آنذاك، ثم مباركة لاحقة من الصديق الدكتور فهد العرابي الحارثي، مهندس (العصر الذهبي) ل(اليمامة)، عبر زاوية (غصن الزيتون)، ثم (تَجولتُ) بين موانئ الصحف الأخرى.. حتى استقر بي (قارب) القلم في صحيفة (الجزيرة) منذ نحو عشر سنوات عبر زاوية (الرئة الثالثة) في ظل (نوخذة) الإبداع الصحفي، الصديق- خالد المالك! (4) * لي صديق عزيز.. يجمعني به غير الود، شيء آخر، كان وما برح أثيراً علينا معاً، ذاك هو الحب لفاتنة مدائن الدنيا (باريس)، وخاصة في شهر سبتمبر، كتب لي مرة هذا الصديق يمتدح مقطوعة (شاعرية) كتبتها عن تلك المدينة، فأجبته برسالةٍ طويلة، اقتطف منها ما يلي: * أنا مثلك أعشق باريس في كل الفصول.. والعشق كلٌّ لا يتجزّأ، لكنَّ لباريس في سبتمبر وحدَه.. لوناً وطعماً ورائحةً تتميز فيه جمالاً وسحراً.. عن كل الفصول! لا تسلني: لماذا؟ فأنا مثلك لا أدري! ** * ورغم ذلك (سأتطوع) بردٍ قد يشفي جزءاً من غليل السائل والمجيب فأقول: إنني أكره رحيل المطر.. وهجرة الأحبّة! لكن في سبتمبر باريس، يعود الأحبّة إليها.. أو هي تعود إليهم من جديد، وتزفّ إليها عناقيد المطر.. لتغتسل به أشجارها وأزهارها وميادينها، من أوضَار الصيف.. وتغدو سماؤها لوحةً أخّاذةً تتعانق فيها لآلئ المطر مع ابتسامةِ الشمس.. وغلالاتِ السُّحب! (5) * سئلتُ مرةً، ماذا يعني لك الموت فقلت: الموتُ حق.. لا ينكره سوى (ميت قلب) إيماناً وعقلاً ووجداناً! والوقوف بين يدي الميت.. (صحوة) للحيّ من (موت) الضمير والإحساس والوجدان! * وبعبارة أدق: * الموت (حياة).. لا (تموت)! * وهو بطاقة سفر.. في اتجاه واحد.. بلا إياب! * وهو.. قاعدة (مطلقة) لا استثناء منها.. * وهو (موعد) لا تعجيل له ولا تأجيل إلا بإذن رب العالمين!