حاول جاهداً أن يتكئ على حاجز الجراح ليروي لابنه قصة طالما خبأها في دياجير الزمن، عمرها سبعون عاماً قد تزيد أو تنقص قليلاً، لتعلو سطورها ذكرى بين جوانحها المسيجة بأحداث حية وصور باكية، هناك بين ممرات قريتي الصغيرة وفي احد بيوت الطين عاش الطفل صالح ومن صالح؟؟ طفل السابعة، ماتت أمه، فلم أعرف معنى الموت!! حتى شاهدت ضريحها ممداً على النعش، سرت خلفها فلم تستطع يداي الصغيرتان الوصول إليها وظلت عيناي ترقبها وقلبي الحائر راجفاً، وكلما حاولت الوقوف كانت هناك أياد تدفعني للمشي حيث الموت ممد. وتحت أشعة الشمس الحارقة وقفت أرقبهم؟ رأيتهم يضعونها!! ظننت أنه بيت جديد!! وما ان رأيتهم يغطونها بالتراب حتى أحسست أن التلاقي محال وأنها لن تعود، حينها صرخت صرخة هزت كل من كان حولي، من بشر من طير وشجر.. حاولت اخراجها دنوت نحو الثرى بدأت الحفر، ولكنهم أمسكوني، أبعدوني، لأسقط على أرض الذكريات بين عبرات وعثرات، طاطأت رأسي في عجز ووجل وحملت قبرها الحزين رسالة الطفل اليتيم: أمي، حبيبتي، أحتاجك لن أعود بدونك؟؟ كيف أنام في بيتٍ أنت عنه راحلة؟؟ كل ما كان يسعدني، الآن يا أمي يبكيني يقتلني أحبك أكثر من أي وقت مضى،، أحبك.. فكانت هذه هي المرة الأولى التي أحادثها فلا تجيب وأبكي فلا ترحمني وتضمني.. رفع القبر ورش بالماء وانتهى اللقاء الأخير بلا لقاء..وتوالت الأحداث والأيام ومنها بزغ ذلك الضيف الثقيل!! استيقظت من نومي وكانت الأصوات تتعالى، اتجهت نحو الباب، فتحته أخرجت رأسي ورحت أنظر من القادم؟؟ كل الناس اتجهت نحو المسجد!! أدركت أنه العيد،، أغلقت الباب بحثت عن ثوبي فلم أجده، شعرت بالحاجة الماسة لأمي ناديتها! فتذكرت،، وتعلقت دمعة في عين طفل صغير حتى فرحة عيده باتت في أحضان الضياع والحرمان!! عدت وفتحت الباب وأنا أرقب ضحكاتهم وتهانيهم،، أغلقته سريعاً وتابعت البحث، وأخيراً، وجدته معلقاً قد غسله أبي ذلك الشيخ الهرم، لبسته على عجل وخرجت أركض حيث صديق يقف مع أمه وقد أمسكت به بقوة أحمد.. أحمد تابعت الجري حتى تعثرت ما بين قلب كسير وقلب أثقلته هموم الطفل الوحيد،، حينها علمت أنني لم أرتد حذائي بشكل صحيح، فأمي الحبيبة من كانت تلبسني،، نهضت سريعاً في حيرة وفزع فانزويت في احدى المزارع، حاولت غسل ما اتسخ منه لست أعلم بماء الساقية غسلته أم بدموع عيني الهامرة.. وتمضي شمس ذلك العيد نحو الزوال، فيطويني الحزن والقهر.. لينسدل ليل ساكن صامت، فكم ليلة دسست رأسي الصغير في خوف ووحشة وجوع وشوق إلى أحضان أمي وما ان أغمض عيني حتى تتراقص أحلام ساهرة تداعبني تارة وتارة أخرى تبكيني.. حتى ليالي الشتاء كانت قاسية لم ترحم، كنت أجلس أمام الموقد ذي النار الضعيفة وجسدي الهزيل يرتجف وأبي كفيف البصر يتخبط في المطبخ فيخرج لنا بتمرات لا تسمن ولا تغني من جوع، فنجلس سوياً ليتمتم بآياتٍ وسورٍ عظيمة كانت تملأ الدار السقيمة بالضياء والدفء فيكررها لأحفظها.. كلها بضع سنين، حتى غاب ذلك الصوت الشجي وبقيت وحيداً، لتبدأ رحلة الكفاح واثبات الذات، فتحديت كل أشكال الظلم والقهر والنصب والفقر وكلما أضاء لي فانوس من فوانيس النجاح والانتصار سقطت دمعة طالما تعلقت في الصغر فتزداد عزائمي وأخطو مع الخطوة ألف خطوة..وكبر الطفل صالح، وأصبحت العم صالح الثري ذا الهيبة، الناس يستوقفها الحاضر ويقتلون الماضي فلا يموت إلا عندهم، أما أنا فلا وألف لا؟ وبعد كل هذا تسألني يا ابني لماذا لا أنفق ببذخ؟؟ لِمَ أنا أبخل كثيراً على نفسي وعليك؟؟ فالجواب صريح: لا تسل عما ضاع في البحر! ولا تستجد من المحروم غير الصبر؟! كل شيء لك من بعدي.. لا أريد أن تعود القصة فترسم على جدار الحاضر بأحداث الابن والأب معاً،، اسمع يا ابني محمد؟؟!! ولكن محمد غيبه الموت منذ أسابيع قليلة.. فظلت قصة العم صالح وحيدة على جدار الأمس، قصة من عمر انسان عاش وقت المغيب ليعمل خلف العيون ويبني آمالاً لا تشوبها ظنون، ومع إطلالة الشروق وقت جني الجهد نام العم صالح ليرى الحلم الأخير. أنت والأحلام في عمري أكذوبة.. رويت في درب الدجى.. لتمضي حكاية.. حكاية أولها كآخرها نهاية أشرقت بأسحار ندية.. وأضحت بالآم شجية.. وقرب شواهد الهوى باتت.. لترى الحلم الأخير.. قلب جريح وأمل ضريح.. لتبقى حكاية في أول الكتاب..