** كما كان لوجود تلك الشخوص الأنثوية في داخل معلق مشهد للإفضاء البيئي المشير في دلالات رمزية لما يستقر في وعيها ووجداناتها من قناعات.. ظلت بمنأى عن التصريح به، إلا بما تنتجه طبيعة الحوار الثنائي بينها، وفي محيط وجودها المعيشي.. وفي ظل هذا الأفق المتداخل في تلك البيئة البعيدة، والتي يحقق ذكورها علامات وجودها في ممارستهم.. تبزغ قيم التحول الحياتي.. في معناه البسيط والمنزاح إلى دلالة ثرائها.. ودخولها في إطار التحول المتدرج. في عناصر لا تمس القيم القناعية بقدر ما تعني حرصها على إثراء وجودها بقيم معيشية ظاهرة. «بعد عدة سنوات أخرى كانت البيوت الطينية المتلاصقة لآل مزينة قد تحولت إلى مبان مصبوبة بالأسمنت والحديد وتحتها بعض دكاكين للبقالة والخردوات، وصرت إذا مررت لا يناديني أحد فقط أشم رائحة الميرمية المعروكة وصب الهيل لم تعد في سيالتها، وترحم على العمة فاطمة..»ص42. ويتماس النص السردي بحركيته، عبر فضاءات نصية.. يتبين من تفاصيلها مدى انشداده لضمائر المخاطبين، والمتكلمين المحكي عنهم.. ويتبدى من ذلك مزاج الوعي الشعبي للبيئة البدوية، وإحالتها إلى الفلكلور النظمي بحاسته المنزاحة إلى بيئتها.. وتداخل ذلك مع محفوظها النظمي، الذي يتبوأ أمكنة عدة في نسيج السرد.. محيلاً إلى دلالات اكتناهها لتداول الخطاب، وما يستبطنه من بنى خطابية يسرد مثالها النظمي عفوياً.. ومتسقاً مع وعيها الذهني، فيما يعبر عنه هذا الوعي من تمثل لتداول هذا النظم في النسيج الاجتماعي لشخوص الرواية.. فحين انتصفت الصفحة الأولى من الرواية بيت شعري.. يؤسس بدءاً لهذا المفهوم «على صدري حطيت شهايد.. بلا موت يا علم». انتظم في السياق السردي أكثر من بيت بفرزه نظام الحوار.. ويتسق مع البوح المعبر عن حساسية الموقف.. استشعاراً لما يمثله ذلك من تكريس للدلالة الكلية للسرد. وتناغماً مع إفضاءات هذه البيئة وثوابتها.. ونظامها التخاطبي.. المؤسس على ثقافة شعبية.. موغلة في تعمقها في لحمة الانثيالات اللغوية: «غلاك لا تخاف عليه مدسوس بين عيني وهدبها» ص81 ويشي توارد هذه النماذج بعفوية، بنية الهاجس الشعبي.. وما يعطيه هذا الترنم بالنظم.. من تحفيز وصول الفكرة المتوخاة من الخطاب.. ** وقد عنيت الكاتبة في تفسير المعنى الدلالي لبعض الألفاظ في هوامش الرواية بغية تمكين الذائقة المتلقية، من استيعاب التصور الدلالي بمعانيه المنطوقة.. فيما ينتاب السياق السردي بعض العبارات، بمنطوقها المحكي بالشعبية المصرية الدارجة. تأكيد على أهمية ذلك في التعبير عن دلالة هذا المنطوق، في البنية السردية ومكانتها في البناء الأسلوبي التعبيري، ومجازيته المتعددة المستويات عبر التشكيل الجمالي للغة السرد. فيما يشكل اكتناهها وسبرها لعوالم اشتغال المجتمع الذكوري بتلك البيئة بهواية «القنص» وتشكيل تلك الهواية للقيم الاعتبارية لذلك المجتمع واستبصاراً للقيم الوجودية ذاتها التي تعبأ بتلك الهواية. وتحولها إلى هم أولي.. ومعنى من معاني الفعل اليومي في الإطار المعيشي الدائم.. وبراعة الساردة في تشخيص العلاقة بين الرجل والصقر.. وتفصيل للمعمار الجمالي للوصف السردي في تحقيق وجود ماثل للعيان المتلقي، للوصول إلى فهم جذور ومعاني هذه العلاقة: «الجوارح التي عادت إلى قصبان الملح كتفية بنسره من صدر الحمامات التي أطلقت ابتهاجاً بغنيمة القنص كمكافأة لها على استبسالها في القتال. كانت تقف وتدفع رأسها بشموخ وكان صدره الممتلئ بالدخان وبفرحة النصر يستسلم للهاث ويركن ظهره إلى سياج الخيمة مراقباً أشرطة الكاميرات. وهي تعاود العرض مرة بعد مرة وسط تصفيق الأمير تارة وصوت جلساءه، كان يراقب بحبور التعليقات، «هذا الشاهين الأصفر النضير مثل الجنيه الذهب»، «والله الصقر الحر صيود، والأحمر أصيل».. «لكن الحر يعمر أكثر من خمسة عشر عاماً» ص89. إن استغراق النص السردي في كشف عوالم هذه البيئة المغلقة. واكتناه علائق وارتباطات عناصرها.. واستنطاق وعي هذه العناصر.. للتعبير عن قيم محدوديتها في تلك العوالم التي ترتهن للنظام الطبقي وانزياحه إلى الأعراف العشائرية والجهوية، في إقصاء المرأة عن المشهد الأساسي والمسافة الاعتبارية لها.. وهيمنة الصوت الذكوري في تشييد النظام البيئي اليومي والأمدي البعيد لها وأحاديته في التصرف والسلوك.. ينكشف أمام البصيرة الساردة وتساهم هي ابتداء بكشفه وتعرية نظامه الداخلي.. في صيرورة حياتية تنتقي مشاهدها من العابر والثابت، وإضاءة عوالم انغلاقه وسط تابوت المحرم والممنوع.. وفضاء الهواية الترفية قياساً لمعناها في البناء الحياتي العام.. وتجاوزاً لما تمثله من أهمية قيمية في إطار ذلك العالم المحتجب.. ويأتي تحييد المرأة عن المشاركة الفاعلة، في أيقونات ذلك العالم سبباً في أن تتمظهر في البناء السردي الذي يمكنها من الإفضاء بمكنوناتها، وحدس الأنا الراوية في اكتناه عوالم المرأة.. و كشف الجوانب المهمة من معاني وجودها وقيمها في مثل ذلك المجتمع.. وقد شكل المعمار السردي في رؤاه المفصلة في النص، أهمية ذلك الوجود عبر تمرحل ظهور المرأة. كركيزة أساس في البنية السردية.. وفي التعبير عن أفقها الفكري.. ومحتواها الوعيي..وأحاسيسها المحرمة على الظهور..! ** فما تمثله «هند» من دور في التسلسل الأسري وعبورها من الوجود إلى الموت يمثل بعداً ذا ارتباط سيىء ثرّ الدلالة في كشف أنظمة البيئة البدوية.. وتفاقم الحس الوجودي عبر مراحل السرد في تجذير وجود المرأة في ذلك المجتمع.. وأهمية دورها المسكوت عنه، والذي تتجاوزه الحركة الذهنية والواقعية لمجتع يسوده الذكور.. ويسيّرون دفته.. فيما هو يستطلع وعبر الوصف السردي معاني أجدر بالبقاء عبر التنويع الشكلاني والمضموني الذي عبر عنه السرد.. كما يبتدئ وعي السرد.. بأصول أيديولوجيا القبيلة.. المحكومة بإرث قبلي.. والمتمثل بوعي الأنا الراوية بتفاصيل علائق الروابط بين تلك القبائل.. وانتماءاتها الاقليمية.. ومراحل تنقلاتها، وطبيعة البنى التي تجمعها على الفكرة.. و النموذج مما ينمي في بنى السرد طبيعة ما يعتور حياتهم من صراعات بين قاطني البيئة الواحدة، واضطلاع القبيلة المنتمية إلى إرثها الجهوي بالسيادة والملك. ** كما تتبلور من فلك الطبيعة العيانية للصراعات فكرة السيادة كرهان على البقاء وانتصار للمجد الموروث.. في منحى العقل اليومي.. وما تمثله العناية الكبيرة بالخيل وسلالاتها ونسلها.. من مظاهر النبل والفروسية ورمز لمعطى الإرث العشائري.. ونظمه المتوارثة.. وهو ما تستوعبه الأنا الراوية في رصدها لمظاهر التعايش بين أحد عناصر تلك الطبقات.. كوحدة بشرية.. وبين غيرها من الطبقات التي تجمعها بنية حياتية واحدة، كالفلاحين والعبيد.. وتكون مستوى قيميا معينا في سلم تراتب طبقاته البشرية في ذلك المجتمع.. وترمز إلى وطأة الفكرة العشائرية.. ومثالها الحركي الفاعل في تثوير نزعات القيمة الأسرية. والوصول بالشخصيات إلى بؤر توتر انفعالي وبوحها بمكنونها الفكري ومساحاتها القناعية العقدية.. من خلال الفعل ا لظاهر والملموس أو بالوصف السردي الواضح ومنظومة القيم الاعتبارية.. تتحول من خلال ذلك إلى صيرورة واقعية.. تتفاعل عبر أنماط السلوك والنظم المعيشية.. إلى صور واقعية في يومياتها ونماذج حركتها وتصرفاتها العفوية.. حيث تتدرج من كونها في وعي الفكر القبلي المهيمن ومزاجه العشائري.. إلى سلوكيات تعبيرية فسلالة الخيل الأصيلة.. معادل نفسي للسلالة القبلية النبيلة كما أن الأخير محكوم بالمحافظة على طرفي المعادلة وترسيخ قيم وجودها في حياته.. وليس ذلك مظهراً ترفياً في حياته فحسب وإنما قيمة اعتبارية للوجود والحياة معاً..